عن تركيا ومفارقاتها ومحنة الإسلاميين
هوشنك أوسي
قيل الكثير عن «نهضة تركيا» و»قوتها الناعمة» و»تصفيرها مشاكلها مع جيرانها» وانسجام إسلامها السياسي الحاكم مع الديموقراطيّة والنظام العلماني. وقيل الكثير من المديح والإطراء بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان و»عبقريّته». ولكن مجريات الحال التركيّة تؤكد ما يخالف الانبهار والصدمة الإيجابيّة بتركيا، خلال السنوات العشر الأخيرة. فتركيا بدأت تدريجاً تفقد «سحرها» و»بريق» تجربتها الإسلاميّة في الحكم، وباتت دائرة هذا «الانبهار» تضيق لتقتصر على الإسلاميين العرب، بعد أن كانت تشمل حتّى القوميين واليساريين والليبراليين أيضاً.
لا يكاد يمضي يوم على تركيا، إلاّ ونشهد مظهراً من مظاهر الانزلاق نحو الحكم الديكتاتوري، الشمولي، بنسخته الإسلاميّة، المكشّرة عن أنيابها، وكيف يمارس هذا النظام القمع والإقصاء والتصفية بحقّ المعارضين والخصوم والحلفاء السابقين، أو كل من يشكل خطراً حقيقيّاً على نظام الحكم الإسلامي. فقمع نظام أردوغان لم يعد يقتصر على العلمانيين من الترك والكرد وحسب، بل صار يطال الإسلاميين الذين ساندوه ووقفوا إلى جانبه طيلة العقد الماضي من حكمه في حروبه ومواجهاته للعلمانيين!.
الحقّ أن مجريات الراهن التركي تتشابه مع ما كانت تشهده كواليس البلاط العثماني، من دسائس ومكائد وفتن ومؤامرات وحملات قتل وتصفية، ضمن الأسرة الحاكمة، بهدف الوصول إلى الحكم أو الاستمرار فيه، حتى لو كان ذلك على جثّة الإخوة والأبناء!. ذلك أن سنوات العسل بين أردوغان وحركة «الخدمة» بزعامة الداعية التركي محمد فتح الله غولن، تحولت بعد إعلان الطلاق السياسي بينهما، إلى كراهية وعداء وملاحقة وتصفية حسابات!. فبعد أن أطاح التحالف السابق بين أردوغان وغولن حكم العسكر والعلمانيين – الأتاتوركيين، في شكل ناعم وسلس وقانوني، وعبر صناديق الاقتراع، لم يكن أحد يتوقّع أن يتحوّل التحالف هذا إلى ذاك القدر من الخصومة والشراسة في العداوة، خاصّة من جانب حكومة العدالة والتنمية!. ويكاد المتابع للمشهد التركي يقطع الشكّ باليقين بأن العداوة المتبادلة بين الحليفين السابقين تفوق بكثير عداوتهما لخصومهما العلمانيين الأتاتوركيين!، بدليل دعم جماعة غولن الأحزاب العلمانيّة إبان الانتخابات المحليّة في آذار (مارس) 2014، ودعمها أكمل الدين إحسان أوغلو، مرشّح هذه الأحزاب في الانتخابات الرئاسيّة التي شهدتها تركيا الصيف الماضي.
أثناء إلقائه خطابي الفور في الانتخابات المحليّة (31/3/2014) والانتخابات الرئاسيّة (10/8/2014)، هدد أردوغان بالانتقام من «الخونة» ومحاسبتهم، سواء كانوا داخل تركيا أو خارجها، مشيراً إلى غولن وجماعته ممن يتهمهم بتشكيل «دولة داخل دولة» و»كياناً موازياً». وقد نفّذ تهديده، عبر حملة تطهير شملت الشرطة والأمن والقضاء، ثم اتجه نحو القطاع المصرفي. وفي يوم 14/12/2014 انتقلت حملة الاعتقالات والتصفية السياسيّة لجماعة غولن إلى قطاع الإعلام التابع لها، حيث اعتقل نحو 30 شخصاً، بينهم رئيس تحرير صحيفة «زمان» الإسلاميّة، أكرم دومانلي، ومدير مؤسسة «سمان يولو» التي تتبع لها قناة «اس تي في»، هدايت كراجا (علماً بأن هذه المؤسسة أنتجت مسلسلاً تلفزيونيّاً يمجّد تركيا والأتراك، إلى درجة العنصريّة، إلى جانب تعظيمه الجيش التركي، وتشويهه النضال الكردي، بعنوان «تك تركيا – تركيا الواحدة»، وقد تمّت دبلجته بالعربيّة، وبثته قنوات التلفزة العربيّة، بعنوان الأرض الطيّبة). ولم تكد تمضي أيّام على هذه الحملة، حتى أصدر القضاء التركي مذكرة اعتقال بحقّ غولن نفسه، بتهمة تشكيله «كياناً موازياً» ضمن الدولة، و»تزعمه منظمة إرهابيّة، تهدف إلى قلب نظام الحكم»، فيما أفرج عن دومانلي!.
غولن، الداعية الإسلامي «المعتدل»، وحليف أردوغان السابق، هو الآن زعيم جماعة إرهابيّة، ومطلوب للعدالة التركيّة!. غولن الذي رفع العلمانيون – الأتاتوركيون دعوى بحقّه سنة 1999، متهمينه بمناهضة العلمانيّة، ودافع عنه رئيس الوزراء التركي الأسبق، وزعيم حزب اليسار الديموقراطي بولنت آجاويد (1925-2006)، مشيداً بدور مدارسه ومعاهده وجامعاته في نشر اللغة والثقافة التركيّة، وأجبر على الهرب من تركيا، هو الآن «زعيم عصابة» ملاحق من قبل نظام إسلامي ساهم غولن نفسه في تأسيسه وتثبيت أقدامه وغرس مخالبه في جسد الدولة والمجتمع والدستور ونظام التربية والتعليم!. في يوم 15/6/2012، وقبل اشتداد حمأة الصراع بين الحليفين الإسلاميين، خطب أردوغان أمام حشد جماهيري زاد عن 50 ألف شخص، مشيراً إلى حجم الحرقة والمرارة والمعاناة وآلام الغربة التي يعيشها غولن، وآن لهذا العذاب أن ينتهي، وأنه يريد رؤية غولن بينهم. بهذا الخطاب العاطفي الجيّاش، وسط التصفيق الحاد، وجّه أردوغان دعوة إلى غولن لإنهاء غربته والعودة إلى تركيا. ووصف غولن الدعوة بأنها تنمّ عن «الشهامة والأصالة والأخلاق العالية»…، معتذراً عن تلبيتها، إذ الدعوة «يجب أن تصدر عن الشعب التركي، وليس القيادات السياسيّة»، وأن تركيا «ما زالت بلداً غير آمن». وهكذا الكلام المعسول المتبادل بين الحليفين، حلّ محلّه الاتهام والتخوين والنفس العدواني في المخاطبة!. والسؤال هنا: من كان يخدع الآخر؟. ومن خان الآخر؟. ومن كان يريد الانقضاض على الآخر والانفراد بحكم تركيا؟. وهذا من دون أن ننسى أن غولن وحركته ضالعان في ما انزلقت إليه تركيا إلى الوراء، نحو العثمنة والأسلمة واستبداد الحزب الواحد واللون الواحد والفكر الواحد والزعيم الأوحد. وهو ما يدفعنا إلى القول إن غولن هو من جنى على نفسه!.
وجدير بالذكر أن أردوغان ضرب مواقع التأثير للجيش التركي والقوى النافذة في الدولة التي كانت تعارض حلّ القضيّة الكرديّة، وذلك تمهيداً لحلها، ولم يبقَ أمامه سوى جماعة غولن التي عارضت المفاوضات السريّة بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني. وهكذا تقول تسريبات إن أوجلان الذي أودع سجن جزيرة إيمرالي سنة 1999، وهو العام نفسه الذي هرب فيه غولن، سيفرج عنه في إطار صفقة حل بين أنقرة والكردستاني، بينما يبقى غولن ملاحقاً، وقد يعتقل ويودع السجن ولا يُفرج عنه إلاّ بعفو خاص من أردوغان!.
وأيّاً كان الأمر، فمحنة الإسلاميين العرب كبيرة في اختيارهم تموضعهم بين الاثنين: أردوغان وغولن، لا سيما أن الأول لن يرضى بالحياد مطلقاً، وسيعتبره «انحيازاً» لعدوّه، وجحوداً بالامتيازات التي أنعم بها على الإسلاميين وحركاتهم، خاصّة منهم الإخوان في مصر وسورية والعراق!. وغالب الظنّ أن حركات الإسلام السياسي، ستصادق جهراً أو سرّاً على قرار التصفية السياسيّة لغولن وجماعته، وستجعل منه «كبش فداء» على مذبح علاقتها بتركيا الأردوغانيّة.