عن مساحة اجتماعية لـ’داعش’
حازم الامين
يتحدث أمنيون عن مساحات جغرافية واسعة ما زال “داعش” يتحرك فيها بين العراق وسوريا. ويقدمون أوصافا وشروحات لطبيعة وجوده في تلك المناطق الصحراوية. والحال أن ما يرصدونه يؤشر إلى استمرار التنظيم في الاشتغال وفي استقبال تمويل وفي تجنيد فتية خارج الرصد الأمني، إلا أن كل هذا قد لا يكون بأهمية “المساحات الاجتماعية” التي ما زال “داعش” يتحرك فيها. وهذه المناطق، على عكس المساحات الصحراوية المفتوحة، هي مقفلة وشديدة الضيق، ومحمية بتقية تمارسها جماعات “مهزومة” تشعر أنها قد أُخرجت من المشهد السياسي، وحُولت في سياق الحرب على الإرهاب إلى جماعة مُدانة ومُريبة.
وإذا كانت الصحراء الغربية في العراق، ومناطق بر الشام الواسعة هي ما يعنيه الأمنيون حين يتحدثون عن “المساحات الجغرافية” الفارغة التي يتحرك فيها عناصر التنظيم، فإن مدنا مثل الموصل والرمادي والبوكمال والرقة، هي “المساحات الاجتماعية”، وهي قد تشمل أحيانا مدنا خارج العراق وسوريا، كطرابلس اللبنانية مثلا، التي استيقظ فيها “داعشي” من خارج ما توهمه أهل المدينة بأنه سياقها، وقد تمتد إلى مدن في الأردن وفي السعودية، ذاك أن النصر على التنظيم كان نصرا جغرافيا وليس اجتماعيا.
وناهيك عن أن “النصر الجغرافي” مستحيل على ما يؤكد الضالعون في الحرب على “داعش”، إلا أن الهزيمة الاجتماعية التي أُلحقت ببيئة واسعة تحرك التنظيم فيها، يحول الفراغ الجغرافي إلى ملجأ للمهزومين.
رجال الأمن في العراق أكثر تشاؤما من رجال السياسة بما يتعلق بمستقبل التنظيم. وهم يرصدون اليوم مجندين جددا من جيل ما بعد “الهزيمة الجغرافية”. في الموصل يُعلن يوميا عن خلايا تم الكشف عنها داخل المدينة، وفي مخيم الهول في سوريا يقول “قسد” إن لدى التنظيم فرصة للاستثمار بفتية يعيشون أسوأ الظروف مع أمهاتهم الأرامل. “ذئب طرابلس” عبد الرحمن مبسوط الذي قتل أربعة عناصر من القوى الأمنية اللبنانية، هو ابن مساحة شديدة الضيق اجتماعيا وسياسيا في المدينة، إلا أنها تملك قابلية كبيرة للتوسع. إنها الطبيعة الأولى للتنظيم. التدفق على المدن من مناطقها الضيقة والداخلية، تلك التي تستبطن فيها جرحها الأصلي.
النصر على “داعش” كان نصرا مذهبيا. هذا جرح نرجسي كبير نجم عنه شعور عميق بالهزيمة، وهذا الشعور يقيم في “لاوعي الجماعة”، ويستيقظ في مناطق غير متوقعة، ويمكن رصده في كثير من ردود الأفعال. فكثيرون من ضحايا “داعش” هم من أبناء الجماعة المهزومة مذهبيا، وهؤلاء يغبطون أنفسهم في كثير من الأحيان ما أن يضرب التنظيم موقعا لعدوهم المذهبي أو القومي. هذا الشعور أملته طبيعة الحرب التي خيضت على “داعش”، وهو شعور لا يتيح له الشرط السياسي الراهن أن يتبلور كخيار جماعي في المواجهة، لكن احتمال أن ينقلب المشهد ليس مستبعدا، والحدود غير منيعة، والصحراء بطن ولادة لما هو غير متوقع.
المشكلة هي أنه ومثلما ذُهلنا من الولادة الأولى للمسخ، ما زلنا عاجزين عن الكف عن الذهول، على رغم أننا نحن من أنجب هذا المسخ. الوقائع اليومية التي تجري في مدننا وصحرائنا وجبالنا وأنهارنا، ليست سوى خطوات لتخصيب القابلية على ولادة المسخ. إدارة الموصل بعد “النصر” وبعد الدمار الهائل، تتم على نحو أسوأ مما يتخيله المرء. “قتل نحو 300 من أهل المدينة غرقا في عبارة لا تتسع لأكثر من خمسين. ونجا صاحب العبارة من المساءلة”. “جنود من أجهزة أمنية رسمية يغتصبون نساء في مخيمات العزل التي تقيم فيها عائلات من عناصر التنظيم”. هذه نتف من أخبار المدينة “المحررة” ومن قصص المنتصرين فيها.
العودة إلى مدينة طرابلس اللبنانية مفيدة في هذا السياق. في المدينة أغنياء انتصروا على التنظيم، وفقراء هُزموا في سياق الهزيمة التي أُلحقت به. لا مشروع سياسيا للمنتصرين سوى مراكمة ثروات فوق ثرواتهم. واليوم لا يبدو أن ثمة أفقا لواقعة قتل الجنود الأربعة في المدينة، لكن المنتصرين قليلي الحساسية حيال ولادة هذا الأفق، لا بل أنهم قد يسعون لبناء هذا الأفق إذا ما اقتضى تضخيم الثروات ذلك.
حكومات بلداننا تمارس تقية حيال الكثير من الوقائع والحقائق التي رافقت ولادة “دولة الخلافة”، بحيث منعت التفكير بما جرى. الأجهزة الأمنية اللبنانية لم تضع أمامنا أرقاما حول حجم مشاركتنا بـ”داعش”. هذه الأرقام بقيت بحوزتها لوحدها. التعامل مع الملتحقين اقتصر على جانبه الأمني، وهذا الأخير هو جزء من شبكة فساد وانتفاع مذهبي ليس لديها أي رغبة في رأب الصدع الذي دفع فتية للالتحاق بـ”داعش”.
وإذا كان هذا حال لبنان، وهو الأقل مساهمة في ظاهرة “داعش”، فإن أحوال بلدان كالسعودية مثلا، التي يُقدر عدد الملتحقين من مواطنيها بالتنظيم بنحو 7 آلاف، أسوأ بكثير لجهة ممارسة الكتمان على حصتها من المقاتلين. وهذه الحقائق تجعل من “المساحات الاجتماعية” الضيقة التي يتحرك فيها التنظيم، مساحات مكملة للمساحات الجغرافية. ولا يبقى لكي يعاود المسخ تدفقه سوى الشرط السياسي، وهذا ما لن تبخل به دولنا الفاشلة وطوائفنا المتحفزة للانتقام.
الحرة
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا