آراء

عيال الله

د. محمد حبش

الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

يؤسّس هذا العنوان لمدرسةٍ اجتماعية حقيقية يفترض أنها رسالة الرسول الكريم، وهي بناء أسرة إنسانية واحدة، تنعم بالانتساب إلى الله على قدم المساواة والعدالة، وهي جزء من حديث نبوي كريم رواه الطبراني والبيهقي والهيثمي والمناوي و74 راوياً آخر من الفقهاء والرواة.

ومع أنّ هذه الغاية منطقية وطبيعية وتتصل بالأهداف العليا للدين ولكن التيارات الإقصائية والتمييزية في الإسلام السياسي وقفت في مواجهةٍ مباشرة مع هذه النصوص، تشكّك فيها وترفض دلالاتها، فهي تسقط الفوارق اللاهوتية في المجتمع ، وتعيد الاعتبار لقيم المساواة والمواطنة، بغضّ النظر عن الاحتلاف في الدين أو الفلسفة أو القناعة أو التوجه.

وأستطيع أن أؤكّد هنا أنّ هذا التوجه لإنكار أحاديث المساواة والمواطنة هو اتجاهٌ حديثٌ، يرتبط بالفعل بطاهرة الإسلام السياسي، وأنه لم يكن تاريخياً الوجه المعروف للقادة الاجتماعيين في الإسلام، وبدلاً من فتاوى التكفير التي تنتشر اليوم كالنار في الهشيم كان العيش المشترك وتجاور المآذن والكنائس والديارات أمراً طبيعياً وعادياً في التاريخ الإسلامي، وفي الحواضر العريقة في سوريا الكبرى مئات الكنائس التاريخية ظلّت خلال التاريخ تدقّ أجراسها وتعظم صلبانها، وظلّت مكتباتها عامرة بكتب التثليث والأيقونات، ولم يتعرّض لها أحد في سياق المجتمع الإسلامي إلا ما يكون من الأفراد المهووسين بالتكفير وهو أمر يتكرّر في كلّ وقت.

ولكنّ المجتمع الإسلامي ظلّ ينظر للجميع باحترام، ولا يعرف في التاريخ السوري قيام دولة إسلامية محترمة بإحراق مكتبة كنيسة أو تنكيس صليب أو قتل كاهن، بل إنّ الشراكة التاريخية بين الشيخ والمطران، والهلال والصليب، والراهب اليزدي والشيخ المحمدي كانت مصدر إلهام في الأدب العربي، ولعلّ أوضح مكان يمكن أن نزوره للاطلاع على هذه الحقيقة هي كتب الديارات، أي كتب زيارات الأديرة التي كان يقوم بها شيوخ وفلاسفة وشعراء مسلمون بهدف التثاقف وتبادل المعرفة مع رهبان الدير، وقد نشأ من ذلك أدب كامل باسم أدب الديارات أذكر منه الديارات للأصفهاني والشتيوي والشابستي، وهي كتب مخصصة للحديث عن الديارات (الأديرة) وهي مكان تجمع الرهبان والكهنة، فيما تولّت كتب الأدب العربي جميعاً فصولاً خاصة فيها للحديث عن الأدب المشترك بين الكاهن والفقيه.

كانت روح هذا المعنى هي الغالبة في المجتمع الإسلامي قبل أن يصبح الإسلام نفسه مشروعاً سياسياً، وهكذا فقد كان مصطلح عيال الله يحظى باحترام كبير، بوصفه مدخلاً دقيقاً للوصال بين عباد الله وبناء مساحة لقاء ووصال بين العبد وبين الرب، وتنصيصاً مباشراً على الأسرة الإنسانية الواحدة، وتلاقي الناس على احتلاف أديانهم بوصفهم عيالاً وأفراداً في عائلة واحدة تحت الله.

ولكن هذا المصطلح الجميل ومع تنامي التيار السلفي أصبح يتعرّض باستمرار لنقدٍ شديد بوصفه احد أشكال التشبيه بين الله وعباده، فالعيال ابن وأخ وأم وأب تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ويرى هؤلاء أنّ هذا الوصف مؤامرة على التوحيد يقصد بها التزلف للنصارى والأديان الشرقية التي تعزز مكان البشر أسرة واحدة تحت الله، فيما يتعيّن علينا أن نطالب بإله يعرفه المسلمون ويجحده كلّ البشر، ويعتقدون فيه عقيدة الزيغ والباطل، وأنّ الإنسانية ليست أسرة واحدة وليست عيالاً لله، بل إنّ التوحيد يفرض الولاء للمسلمين والبراء من المشركين، والمشركون هنا هم كلّ البشرية بمختلف أديانها ومذهبها وعقائدها، حيث يتمّ اعتبارهم جميعاً عقائد زيغ وضلال وشرك بتعين البراءة منها وبغض أتباعها في الله.

ويرى هؤلاء أنه يجب ردّ مثل هذه الأحاديث التي توهم أنّ الله والعالم أسرة واحدة، وعلى الرغم من أنّ الحديث روي في أربعة على الأقل من الكتب الأصول: الطبراني والقضاعي والحارثي وأبي يعلى، وفي سبعين كتاباً آخر من غير الأصول، ولكنّ قلم التحقيق السلفي حشرته في زاوية النصوص المخالفة للعقيدة والتي لا بدّ من إبطالها وردّها، وأفضل الطرق لذلك هو ردّ الإسناد وتوهينه ودحره، والحديث إذن منكر بالكلية.

قناعتي انّ هذا الأسلوب لتنزيه الله تعالى لا يفيد في بناء علاقة حب وشوق بين الله والعبد، ويكرّس مكان الله تعالى خالقاً مفارقاً يتعالى على عباده ويتكبّر عليهم ويتجبّر، ولا يتصل بعباده ولا يتصل به عباده، وقد انقطع ما بينهم وبينه من خطاب السماء منذ قرون طويلة، وأنّ الله متكبّر منتقم قاهر، ذو البطش الشديد والغضب المريد، لا يصيب بطشه الذين ظلموا خاصةً بل يصيب البلد الخاطئة بما جناه العصاة فيها فيقلب عاليها سافلها ويمطرها حجارة من سجيل منضود.

لا أشكّ أنّ هذا التوجه السلفي الجاف لفهم الرب سبحانه موجود في ظاهر نصوص الكتاب والسنة بالأدلة، ويمكن للقوم أن يمطروك بما شئت من نصوص التوحيد التي توجب الفصل بين المواطنين على أساس مسلم وكافر، وعلى أساس مسلم ونصراني، وعلى أساس سني وشيعي وإسلامي وإزيدي.
ولكنّ القرآن الكريم لا يلتزم هذه القواعد المتأخرة للسلفيين، وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تذكر الأسرة الإنسانية الواحدة، يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ولا شكّ أنّ معنى لتعارفوا يتناقض تماماً مع منطق لتقاتلوا ولتحاربوا وليلعن بعضكم بعضاً، وفي القرآن الكريم إشارة إلى كرامة ابن آدم، ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، وهذه الكرامة سابقة على نزول الكتب وظهور الأنبياء، بل إنّ آدم نفسه الذي سجدت له الملائكة أجمعون في المهرجان السماوي، لم يكن موصوفاً بفقه ولا طائفة، ولم يكن رسولاً باتفاق، بل إنّ كثيراً من الفقهاء لم يعتبره نبياً أصلاً وإنما هو الإنسان الأول، الإنسان الذي يحمل رسالة الله في المحبة والإخاء، والمكلّف بإنشاء أسرة الله في الأرض وبناء المحبة والرحمة بين عياله.

وذهب آخرون في الردّ على هذا الحديث بأنه حديث يشتمل على تشبيه وتمثيل لله، والله منزه عن الشبيه والمثيل، وفيه تواضع وتدلّ من الله والله موصوف بالتكبر والجبروت والقهر….

ولكنّ هذا الاصطفاف السلفي السياسي ضد معاني الرحمة والحنان والتواضع في الله تعالى منقوض بنصوص القرآن والسنة أيضاً، ففي السنة النبوية ذكر الله الضاحك، والله الفرحان، والله الغاضب والله السعيد والله المتعجب.

فيقول ضحك ربكم من قنوط عباده وقرب غيره، وقال: لله أشد فرحاً بتوبة العبد، وقال: ألا أدلّكم على ما تتقون به غضب ربكم، وقال: عجب ربكم من إياسكم وقنوطكم.

ما أردت أن أقوله هو أنّ القرآن الكريم أوسع من هذا وأنه يشتمل على خيارات تجل وتدل وقرب بين الله وبين العبد، لا يرضاها شيوخ علم الكلام، وفي موقف جد صادم لأوهام الإقصاء والصرامة الاعتقادية الحادة أخرج البخاري في الصحيح أنّ رسول الله قال فيما يرويه عن ربه ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وعينه التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها!!!

لا يوجد كلام في التشبيه والتمثيل أجرأ من هذا ولو أنّ راويه غير البخاري لتوالوا على تكفيره وتبديعه وتفسيقه، وفي البخاري من هذا أيضاً قوله: وإذا تقرّب إليّ عبدي شبراً تقرّبت منه ذراعاً ، وإن تقرّب إلي ذراعاً، تقرّبت منه باعاً ،وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة!!!

ولا نحتاج إلى أي تنبيه لنذكر بما في هذا الحديث من نقض مباشر لنهج جفاة السلفية من أهل الصارم المسلول على أهل التشبيه والحلول وقامع الإلحاد في مسائل الاعتقاد، حيث يبدو النبي الكريم هنا من غلاة الصوفية والقائلين بالحلول والاتحاد، يصف الله بأنه يقترب شبراً وباعاً ويمشي ويهرول!! وهي تهمٌ كانت ستطال بكلّ تأكيد مَن يقرا هذا الحديث أو يجرؤ على روايته لو لم يكن في صحيح البخاري!!

نحن مَن صنعنا التابو الأسود حول مسائل علم الكلام، واعتبرناها مسائل العقائد التي لا يجوز فيها جدل ولا خلاف، وأنها قطعيات محسومة، مَن شكّ في واحدة منها كفر، ومَن تأوّلها خلاف ما رآه السلف فقد أراد الدين بإلحاد بظلم، وبشّره بعذاب أليم..

ليس هذا درساً في اللاهوت ولن تكون هذه الصفحة مناسبة للاهوت، ولكنها محاولة لمواجهة التفكير السلفي الصارم في مسائل العقائد الذي رفع عقيرته بتكفير الصوفية لتهاونهم في مسائل الاعتقاد، ثم يتولّى تكفير الفرق الإسلامية الأخرى التي لا تتطابق في الفهم الاعتقادي، وتكفير التيارات العلمانية لأنها تقول بخلق القرآن، وتكفير الأديان جميعاً لأنها لا تلتزم تفاصيل مسالة التوحيد كما نصّ عليها المحقّقون من فقهاء السلف.

المسألة تتجاوز بشكلٍ كبير درس التوحيد، وجدل السلف والخلف، وظاهر اللفظ ومؤوله، وتطرح بوضوحٍ سؤال الوفاق الإسلامي بين المسلم وأخيه المسلم، صوفياً وسلفياً، وسنياً وشيعياً، وتفتح بشكلٌ واضح سؤال اللقاء بين المسلم وأبناء الأديان الأخرى، وتدعونا لمراجعة الفكرة السائدة أنّ العقائد مسائل حسم صارم، وأنّ الخلل فيها يوجب الخروج من الملة والخلود في النار.

متى سنتوقّف عن اعتبار الخلاف في العقائد فيصلاً بين الإيمان والكفر، والتوحيد والإلحاد، والأخيار والأشرار، والإنسانيين والشيطانيين، والوطنيين والخونة؟؟

متى ندرك أنّ الخلاف في العقائد ليس إلا الخلاف في الرأي الذي بات اليوم أكثر مسائل الحريات سطوعاً ووضوحاً في العالم، وهي حقيقةٌ أشار إليها القرآن الكريم في مجموعة الآيات اللاإكراهية وهي تتجاوز العشرين آية، ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟
إنها حقيقة عبّر عنها الشيخ الإمام ابن عربي بقوله: الخلق كلّهم عيال الله، ولن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق.

نشرت المقالة في جريدة يكيتي /عدد 304

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى