القصة ليست أوكرانيا وحدها. إنها أبعد وأخطر. على روسيا تصفية حساباتها في الوقت المناسب. والوقت المناسب يعني وجود قائد استثنائي يصلح للقيادة الخطرة عند المنعطفات. لا يتعلق الأمر بأوكرانيا وحدها. يتعلق أيضاً بحلم أوروبي قديم بترويض روسيا وتحجيمها. بحلم غربي بإرغام روسيا الكامنة تحت الثلج على فتح دفاترها واعتناق وصفات الغرب التي تزعم الانتصار. مبارزة حضارية وثقافية تختلط فيها الأسلحة بالمخاوف والمصالح وشراهة الأدوار.
أوكرانيا دولة مصابة بلعنة الجغرافيا. بين أهلها من يحلم بالالتحاق بالحديقة الأوروبية وترك السهوب الروسية لأهلها. وبينهم من يسلّم بالمصير المشترك للبلدين وكأنهما «شعب واحد في دولتين». الجغرافيا ظلم دائم. أوكرانيا تعرف هذه القصة تماماً كبلدان كثيرة في غابة العالم.
القصة ليست أوكرانيا وحدها. إنها فرصة لهز صورة أميركا بايدن بعد اهتزازها لدى مغادرة أفغانستان. فرصة لوضع أميركا المنشغلة بـ«الخطر الصيني» أمام امتحان لا يمكن كسبه. لن تغامر واشنطن بإشعال حرب عالمية من أجل أوكرانيا. كل التهديدات الغربية تتحدث عن «عواقب وخيمة» في حال اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا. وهذه العواقب تعني عقوبات اقتصادية ودبلوماسية. والقيصر لا يخاف وإنْ كان من المرجح أن يسقط أوكرانيا من الداخل بدلاً من الاضطرار إلى غزوها. يلعب بأعصاب الزعماء الغربيين وجنرالات «الناتو». يحرك قواته على الحدود ويوقظ المخاوف. ثم يقدم شروطاً قاسية. كأنه يريد حرمان دول حلف الأطلسي من المكاسب التي حققتها غداة الانهيار السوفياتي. يطالبها أيضاً بإعادة بيادقها إلى حيث كانت قبل تقديمها استناداً إلى الاعتقاد بأن روسيا باتت منزوعة الأنياب.
لم تعد اللعبة مغرية كما كانت. تكرار الانتصارات يفسد هالة الاحتفالات. وغياب الخطر يبدد ذهب الإثارة. لا وجود في هذه الخريطة الشاسعة لخصم مخيف، ولا لشريك مقلق. كأنك تذهب وحدك إلى المباراة وترجع بالكأس. التصفيق رسمي والابتسامات بروتوكولية.
اللعبة تحت السيطرة وباب المفاجآت موصد بإحكام. لا أحد يجرؤ على تحدي الدستور. كل الرؤوس تنحني بلا تردد. الوزراء. النواب. حكام المقاطعات. الجنرالات مع أوسمتهم. وبارونات المؤسسات والشركات مع مكاتبهم. تقول التقارير إن لا أحد يرفع سبابته مهدداً أو محتجاً. الأعشاب الضارة تعالج باكراً وقبل استفحالها. وسائل الإعلام تقيم تحت السقف المرسوم لها. يمكن قول الشيء نفسه عن وسائل التواصل الاجتماعي. المعارضة منزوعة الأنياب والأظافر. شيء يشبه الزينة لإرضاء الغربيين ومتاجر حقوق الإنسان. حين يتحول الحاكم زعيماً بلا منازع يتولى الدستور صاغراً إدارة مكتبه.
هدوء عميق ومضجر. لا أحد يجرؤ على ارتكاب حلم الإقامة في الكرملين. إقامة شاغله الحالي مفتوحة والمواعيد الدستورية شكليات في ظل الزعامات. خصم واحد لا يمكن ترويضه أو وقف زحفه. إنه العمر. تكاد السبعينات تطل في قطار السنة المقبلة. العمر هو المواطن الوحيد الذي لا ينحني لإرادة القيصر.
للأيام العشرة الأخيرة من السنة طعم لاذع، ليس فقط لأن الرصيد يتناقص في مصرف العمر بل أيضاً لأن الذكريات تهب بلا استئذان. كان ذلك في مثل هذا الأسبوع وتحديداً قبل ثلاثين عاماً. توارى ميخائيل غورباتشوف وتوارى معه الاتحاد السوفياتي. حمل الانهيار أيضاً توقيع بوريس يلتسين وقادة جمهوريات. وقعت أكبر «كارثة جيوسياسية في القرن العشرين» وهزمت روسيا التاريخية تحت لافتة الاتحاد السوفياتي.
ليس بسيطاً أن تستيقظ يتيماً حتى ولو كنت في التاسعة والثلاثين. ضاعت بلادك. إنها البلاد نفسها التي قهرت نابليون وجيشه ولا تزال تحتفظ حتى اليوم بمدافعه الذليلة في حديقة الكرملين. البلاد التي قصمت ظهر أوروبي مجنون اسمه أدولف هتلر وردته عن أسوار موسكو مثخناً لتطارده لاحقاً إلى وكره وتغير ملامح أوروبا.
تنتابه أحياناً أفكار قاسية. كأن يستدعي غورباتشوف العجوز ويطلب منه الاعتذار علناً لمواطني الاتحاد السوفياتي عن الانهيار الكبير. يخطر بباله أن يرسله بعد الاعتذار إلى سيبيريا لتتجلد أيامه على جدران زنزانته. يضحك. عقارب الزمن لا تعود إلى الوراء. ينتابه سؤال غريب: ماذا سيقول غورباتشوف لجوزيف ستالين إذا التقيا في العالم الآخر؟ يبتسم. رائحة السبعينات تساعد على السيناريوهات الغريبة.
عافية الجسد لا تخفي جروح الروح. والجروح كثيرة. كان فلاديمير بوتين قرب جدار برلين حين تداعى. وكان قبل المشهد يعتقد أن جهاز الـ«كي جي بي» الذي ينتمي إليه لا ينام ولا تغدره الأحداث. وكان يتوهم أن الاتحاد السوفياتي ولد لا ليبقى بل أيضاً لينتصر. خان «الرفاق» في أوروبا الشرقية سنوات الود. خانوا أيضاً حلف وارسو. قفزوا من القطار السوفياتي إلى الحلم الغربي. تسارعت الزلازل. الجمهوريات السوفياتية أيضاً خانت. اغتنمت أول فرصة للطلاق. غسل الرفاق أيديهم من حزب لينين. واعتبروا العلاقة بالأجهزة الأمنية عاراً لا يمحى. والذين كانوا يصفقون للحزب وأمينه العام اقتصرت أحلامهم على استرضاء السفير الأميركي. وارتدى سعادة السفير ثوب الناصح والمحذر وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة وتحول مرشداً حول أساليب الخروج من الركام.
جروح كثيرة في روح رجل واحد. ألمانيا الغربية ترسل مساعدات في مقابل تنازل موسكو عن ألمانيا الشرقية. صورة مذلة تشبه من يبيع أطفاله. الدول الصناعية مستعدة لمساعدة روسيا لكنها تشترط إصلاحات. الروبل ينحني كما انحنت البلاد. وضباط «الجيش الأحمر» يبيعون بزاتهم مع الأوسمة بحفنة من الدولارات. وكان الأكثر إيلاماً تقطيع أوصال الكتلة السلافية التي تضم روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا.
سبق لبوتين أن عاقب أوكرانيا وجورجيا باقتطاع أجزاء من جسدي الدولتين. ولم تغب عن الأذهان بعد خطوة ضم القرم. اللعبة الحالية تعني انتزاع اعتراف من الغرب بعودة المدى الحيوي لروسيا حيث على الغرب أن يتعهد عدم الوجود عسكرياً. إنها رسالة لأوكرانيا وسائر الجيران وللغرب أيضاً.
وسّع القيصر ميدان المبارزة. أوكرانيا وسوريا وملاعب أفريقية متعددة. الجيش الروسي أو الخبراء أو «جماعة فاغنر». بعد ثلاثين سنة من الانهيار الكبير يحصي حامل مشروع الثأر نجاحاته. لا يقلقه الحاضر. يشغله موقعه في التاريخ. هل سيكون في الصفحة نفسها مع بطرس الأكبر وكاترين الثانية؟ وماذا سيسمع من ستالين إذا تيسر اللقاء في العالم الآخر؟
aawsat