آراء
فيدرالية بشار الأسد
د. محمود عباس
القوة الكردية المسيطرة على أجزاء من غربي كردستان، لم تطالب حتى اللحظة بالفيدرالية، وتطبق على أرض الواقع نظام الإدارة الذاتية لثلاثة كانتونات مجزأة عن بعضها ضمن جغرافية المنطقة، وذلك على خلفية تصريحات سابقة قبل التكوين بقبول النظام الفيدرالي بدون حدود جغرافية محددة، مكونة من كل الشرائح المتواجدة ضمن المنطقة، وليست فيدرالية كردية خاصة، في الوقت الذي كان المجلس الوطني الكردستاني سوريا ومنذ 2006 يرفع شعار النظام الفيدرالي لسوريا واللامركزية مع إسقاط نظام بشار الأسد، وتبناه الأحزاب الكردية الأخرى الذين لم يشاركوا نظام الإدارة الذاتية ورفضوا رفع الشعار إلى فترة متأخرة بعد بدأ الثورة، وأنضم البعض منهم إلى الائتلاف السوري المعارض، رغم معارضتهم الشديدة له،
فيتبين من تصريح بشار الأسد على أنه وجه كلامه في معظمه للقوى الكردية الخارجية، والتي ترفع شعار النظام الفيدرالي، مع بقاء غموض حول موقف السلطة من كانتونات الإدارة الذاتية، وعليه فلا يتطلب من حكومات هذه الإدارات الرد على تصريحات راس السلطة الشمولية بشار الأسد، أو أنه ربما اعتراف مبطن بالجاري على الساحة، والمشكوك فيه، أن التصريح ليس سوى تكتيك لتوسيع هوة الخلافات بين الأطراف الكردية من جهة وبين الكرد والمعارضة العربية من جهة أخرى، بعد أن لم تنفع معه توجيه داعش إلى مناطقهم، لذلك يقوم بتلويح هذه الورقة المستوردة على الأغلب من أروقة موسكو أو تكيات أئمة ولاية الفقيه. والذين يطالبون قيادة أل ب ي د بالرد منطقهم ملغي، لأن الكلام موجه إلى القوى التي ترفع شعار النظام الفيدرالي وتحاول تحريك القوى الكبرى لإسنادهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مقدمتهم المجلس الوطني الكردستاني -سوريا.
أما من الناحية الذاتية لشخصية بشار الأسد وخلفيته الثقافية الغارقة في العنصرية والمستسقاة من ثقافة البعث ومدرسة والده، تبين، أن تصريحه حول معارضته لأمريكا الراغبة (كما يذكر) بمساندة الكرد في تكوين نظام فيدرالي في سوريا القادمة، عن خلفية غامضة حول قناعة ما متراكمة في اللاشعور حول النظام الدستوري المذكور، ومن خلال رفضه المسنود على الرقم الغيبي العشوائي المستنتج من اللاتعيين، والذي لا سند إحصائي منطقي له، تظهر قرب نهاية سلطته المركزية، والمقابلة بكليتها تأكيد على أن الموضوع يدرس ليس فقط في محيطه، بل في الأروقة التي تجمعه وقوى الهلال الشيعي المساند لسلطته، والفكرة كمخطط عملي يدرج ليس على منطق فيدرالية كردية، بل كونفدرالية للمنطقة العلوية، في حال زوال حكمه كسلطة مركزية، حيث اللأمان في سوريا القادمة لطائفته التي أغرقتها ضمن حرب أهلية، لوث أيادي معظم عائلاتهم بدماء الشعب السوري، وبجرائم سيطالبونهم بها دون هوادة، لهذا يضع بشار الأسد الكرد وقضيتهم طعما يبني عليها المنطقة العلوية كمحمية يؤمن جانبهم من ثأر السنة لهم من جهة، وثأر العائلات العلوية له وللعائلات التي أقحموهم في هذا الصراع الدموي، والكل يعلم أنه لا يخلى بيت علوي وإلا لهم قتيل، ضحى بهم بشار الأسد من أجل سلطته.
رغم أن القضية المطروحة بتلك الضحالة التي لا تحتاج إدراج نقد منطقي لدحضها، فالرقم المذكور لا تعبر سوى عن خباثة معرفية بالمنطق الديمغرافي واستقصاء لإحصائيات مركبة تعود عليها بشار من خلال عمليات انتخابه وانتخاب والده، والأرقام التي كانت معروفة سلفا للشعب ويفتخر بها وعائلته وحاشيته، إلى أن أصبحت العمليات الحسابية تلك مغروزة في اللاشعور عنده منذ الطفولة، وعليه فقد تعود على أن يطلق الأرقام على عواهنها دون رقيب أو محاسبة، وكمستبد كانت تدرج وكأنها إحصائيات موثوقة مسنودة بالمطلق، والرقم 36 تعكس العشوائية تلك، وإلا فالمعترف بين البشر الأرقام المقربة بدون تأكيد تكون عادة مكورة، في الخمسيات أو الأعشار، فلماذا لم يكن الرقم 40 أو عشرين مثلا؟ أم أنه هناك خلفية أخرى ورائها، قد تكون هناك لجان سرية تتبع الكرد وقراهم وتحصي النسبة الباقية بعد عمليات التهجير القسرية والتعريب المتتابع على مدى نصف قرن للمنطقة والتي بدأت منذ مجيء البعث واستعرت في سنوات حكم والده المقبور وحكمه وتفاقمت في السنتين الأخيريتين وكانت ورائها مربعاته الأمنية التي قامت بخلق كل المآسي داخل المنطقة، بدأً من تحريك الصراع بين الأحزاب الكردية، وتهجير الشباب الثوري في بدايات الثورة، وبين الكرد والعرب في المنطقة، والحصار الاقتصادي المفروض، إضافة إلى الاغتيالات والاعتقالات القسرية والاختطافات وغيرها من الأعمال الإجرامية المعروفة للمجتمع، والتي ساهمت فيها أدواته المتواجدة في المنطقة، مضافة إلى كل ذلك توجيه الإرهابيين الذين يخدمون سلطته بشكل مباشر كداعش نحو المنطقة، إلى أن تجاوزت نسبة المهجرين نصف المجتمع الكردي، مقابل نزوح بلغ اكثر من مليوني إنسان من الداخل نحو المنطقة، اذا كانت الفيدرالية ستعترف بها أو سترفض بناءً على النسبة الديمغرافية، فعلى بشار الأسد أن يعود إلى سنوات مجيء البعث إلى السلطة قبل بدأ عمليات تعريب المنطقة.
يدرك بشار الأسد أن اكثر من نصف المعارضة العربية السياسية في الخارج، ترفض النظام اللامركزي وتعارض الفيدرالية لسوريا القادمة بعد سقوط نظامه، ويعلم أنه يلتقي وقسم واسع من المعارضة في هذه النقاط، تجاه الكرد بشكل خاص، رغم أنه واقع يفرض ذاته كنتيجة حتمية لإيقاف الحرب الأهلية التي تغرق سوريا ضمنها، والتي سوف لن تقف أوارها حتى بعد زوال سلطته، وعليه أراد الضرب على الوتر الحساس لدى المعارضة، لإثارة الخلافات بينهم، وتحريكهم ضد أحد أهم مكونات المعارضة الوطنية ضد نظامه، والذين لا يتنازلون بأغلبيتهم عن شعار إسقاط النظام، والنظام الفيدرالي لسوريا القادمة كأفضل الحلول لبناء مستقبل يؤمن حقوق الكل ضمنها، بدون سلطة مركزية عروبية عنصرية كالبعث وسلطة الأسدين، وطغيان مذهبي ينتقل من الطائفة العلوية إلى الأكثرية السنية والتي قد يتحول إلى سيطرة الراديكاليين. ففي الواقع وحسب مجريات الأحداث الصراع بينهما لم يكن على اجتثاث النظام الفاسد، بكل أبعاده الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية، بل هو صراع من أجل السلطة، فقد شاركا معا بتحويل الثورة من ثورة الشعب ضد نظام مستبد إلى صراع عسكري على القصر الجمهوري، والجهتان يحملان معا أوبئة متشابهة وبوجوه مختلفة.
بشار الأسد يستلم استشارته من فروعه الأمنية، ومن الهلال الشيعي ومن موسكو، وهناك من يربط كل هذه الحلقات ببعضها، فمصالحهم أثمن من دماء الشعب السوري، وأثمن من عمليات تهجير الشعب وإزالة القضية الكردية، فلم تعد سوريا دولة بكيان وشعب، بل مجرد حلبة الصراع على المصالح، والدول التي تساند النظام والتي تتقاعس في دعم الشعب السوري تحت حجة الإرهاب، لم تعد تنظر إلى سوريا بإنسانية، فشعبها اصبح يستخدم كطعم لحيتان تجار الحروب والمنافقين والانتهازيين، وبشار الأسد يهمه في كل هذا استمرارية البقاء على السلطة، فلقد غرق ذاته في مستنقع، وأغرق معه الشعب السوري و تسبقهم الطائفة العلوية، وعليه فهذه التصريحات حول الفيدرالية الكردية وهو من كان يرفض ذكر اسم الكرد قبل الثورة، ويتحدث اليوم عن فيدراليتهم وعلاقتهم بأمريكا والمخططات التي تدرج على الساحة، ويعرض الرقم وكأنه يطالب الهيئات الدولية في حال الضرورة إجراء إحصائية تحت إشرافها، مبنية (كما ذكر سابقاً) على تهجير سكانها الكرد الأصليين وعمليات الاستيطان التعريبي الممنهج على مدى عقود من الزمن.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية