آراء

في الرواية والفن الروائي

هشيار جوان

بداهةً لابدّ من ذكر حقيقةٍ ترسّخت منذ سنين طويلة ، وبالنقيض مما كان يتداول حول الرواية كفنٍّ وتنصيصٍ أدبي ، هذه المتغيرات التي لاتقلّ أهميةً عن آراء جهابذة ظلّت واستمرّت لمساتهم وآراؤهم تتفاعل في بنى المجتمعات ، ولكن ومع ظهور عظماء ومفكرون أسسوا وساهموا بتطوير بنى معرفية متعددة، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، لعب داروين وماركس وفرويد بتغيير وجه الحضارة الغربية ، ولكن في العودة إلى الرواية سنرى بأنها أحدثت تأثيراً بنيوياً تجاوزت جهود الثلاثة مجتمعين ، ناهيك عن الآفاق التي أسسته لكي يستمرّ هذا التأثير في المستقبل ، هذا الأمر الذي ركّز عليه كثيراً كولن ولسون وكمبحث استخلصه من دراسات وقراءات مستفيضة جامعاً رؤى ومواقف كثير من الأدباء والمفكرين وكتاب الروايات في عملية بحث معمق عن الرواية والفعل الروائي والتأثير المتفاعل، إن للمجتمعات معها ، أو إمكانية وسبل استمراريتها في المستقبل ، وبعبارات أدق / … فهو يرى الرواية كمرآة لابدّ وأن يرى فيها الروائي وجهه وصورته الذاتية وما وصف الحقيقة وقول الصدق .. إلا هدفان ثانويان ، أما الهدف الاساس فهو أن يفهم الروائي نفسه وأن يدرك ماهية هدفه بالذات ١ . ويتعمّق ولسون أكثر في طرح وجهة نظره ويختزلها في ( إن جوهر المشكلة في رواية القرن العشرين هو أنّ ( الروائي لا يعرف مايريده من الحياة ومن ثم من الفن ) ٢ . ويركّز وباستفاضة على جدلية الشك ومن ثم التشاؤم كأمرين يقودان إلى محاولات متباينة وفي كثير من الأحوال قد تدفعان للبحث الجدي ومن ثم إيجاد الحلول في متن ونسقيات الرواية والتي تختلف حسب ما يرتأيه الروائي وكمثال : ( … مبدأ تحقيق الرغبة في الروايات التي تتراوح بين الكتب الأكثر رواجاً في المكتبات ، وبين التجربة الواعية التي لا تؤدّي إلى نمطٍ من أنماط الرواية الرائدة ، بل إلى نمط من انماط الرواية المعبّرة عن اللإانتماء .. ) ٣ . وفي توصيف دقيق لماهية كما وأهمية الكتابة الإبداعية يؤكّد كولن ولسون وبتوصيف دقيق لظاهرة الكتابة الإبداعية فيشبّهها بالعملية الشاقة ( .. كالصعود إلى أعلى ، حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة كي يصبحوا كتاباً جيدين ) ٤ ،

وهنا فقد استعان بتعليق ذكره فوكنر عندما سئل عن رأيه في جيل نورمان ميلر حيث قال : ( .. إنهم يكتبون كتابة جيدة ، غير أنه ليس لديهم ما يقولونه .. ) ٥ وليختزل همنغواي وصف الكتابة بقوله : ( الكتابة تبدو سهلة غير أنها في الواقع من أشق الأعمال في العالم ) ٦ . ..

نعم ! فكلّ التجارب الكتابية خلال العصور المتلاحقة وصلت الى خلاصة يمكن اختزالها وببساطة في الكلمات التالية ( لن تنجح رواية أو مسرحية عن شخص لا يعرف ماذا يريد .. كما وإنّ الإبداع ليس سراً مقدساً إنه في الأساس موهبة لحل المشكلات .. ٧ .. نعم ! فهو بذاته ومن جديد كولن ولسون الذي يعود ليؤكّد وبتوصيف جديد في خاصية الكتابة وتجلياتها فيهبها وبتوصيف دقيق خاصية حلم اليقظة ( .. الممتع حيث يسود هذا الشعور أي شخص قام ( بكتابة رواية من الروايات ، أو حتى إن كان قد حاول القيام به ويصف ولسون ذلك الشعور قائلاً ( أي فرد قام بكتابة رواية من الروايات .. أو حتى حاول القيام بها .. إنه شعور بالحرية وكانك تسبح في بحر دافئ .. ولكن على الرغم فهي ليست حرية كاملة .. إذن ان هذا العنصر كالبحر له قوانينه الخاصة به .. وإذا ما اردت الغوص فيه أو اللعب فعليك تنفيذ ذلك وفق أسلوب خاص … و ( .. أوج الشعور بالحرية يكمن في الصفحات الأولى ، ثم تصبح واعياً وأنت تسترسل في القراءة بالقوانين والأنظمة – وهذا هو الحد الذي يفقد فيه المبتدؤون حماسهم ويستسلمون ، أما بالنسبة للكاتب المجرّب فإنه يسترسل في الحسرة ويبدأ من جديد إذا ما شعر بأنه قد وقع في الفخ . ) . ٨ وهذا الأمر يقودنا إلى شكسبير ومقولته (إنّ الفن يحمل مرآة تعكس الطبيعة وبعبارة أدق ( إنّ الفن مرآة يرى فيها المرء وجهه هو ) ٩ .

وهنا وفي العودة الى جملة – مامن رواية غيّرت مجرى الأحداث في هذا العالم !! يرى كولن ولسون بأنه قد تبيّن له على أنّ ذلك من أكبر المفاهيم الخاطئة على الإطلاق ..

إن الرواية ( لم يبلغ عمرها بعد سوى قرنين ونصف من الزمن ، ولكنها في ذلك الوقت الصغير غيرت في أمور كثيرة ضمير العالم المتمدن ، نعم ولمَ لا ؟ أو لسنا من يقول بأنّ دارون وماركس وفرويد غيروا وجه الثقافة الغربية ! ولكن : تأثير الرواية كان أعظم من تأثير الثلاثة مجتمعين .. ) ١٠

هذا الأمر بالذات وعلى حد قول ولسون فإنّ الرواية تتطلّب من القارئ مشاركة أعمق مشاعره وبدقة ساعة بيغبغن حتى يتلقط ومن جديد عمق المشاعر الحقيقية ١١. وهنا دعونا أن نقتحم واقعاً عملياً لواحدٍ من العمالقة : نعم وأعني به بلزاك الذي هو ليس كاتباً طبيعياً – وهي كلمة بدأت بالشيوع بعد موته – أو حتى واقعياً – وبما أنّ هدف الطبيعة هو إظهار الحياة كما هي ، إلا أنّ بلزاك لم يكن في واقع الحال مهتماً بما يراه الآخرون بقدر اهتمامه بما يراه هو ، أي وبمعنى آخر ماهو غريب ومعقد تعقيداً كبيراً وكمثال كان ينبغي إثبات أنّ المبتكر هو برومثيوس من نوع ما ومبدع ( .. إلهي يسمو فوق جميع مخلوقاته ويستحضر عوالم وحقب بأكملها في الوجود ، وهذا هو السبب في أنّ بلزاك لم يدرك صوراً ذاتية في رواياته ) ١١ .

كما وقد شخّص المهتمون بنتاجات بلزاك تلك النزعة التدميرية الذاتية عنده ، فهو مهووس بالمركز الاجتماعي ومبذر فيه إلى حد بعيد وبالرغم من أنّ رواياته لم تحقّق ذلك الرواج الهائل الذي حقّقه توماس او هوغو ، فقد استمرّ يكتب طيلة الليل حتى مات من فرط الإجهاد ١٢ .

إنّ أية رواية تستمدّ قوتها من صناعة الروائي مع المشكلة ، وحالما ( يتوقّف هذا الصراع فإنّ الروائي يبدأ بالموت فنياً ، وعليه فإننا نستطيع أن نلاحظ الدوافع التي تؤدّي بالكاتب الى صياغة تلك الافكار التي تتواتر الى مخيلته ١٣ .

وبتلخيص شديد هنا دعونا نستذكر الكاتب الأسكتلندي ديفيد ليندساي الذي قسم الروايات إلى : التي تصنف العالم وتلك التي تحاول تفسيره ١٤ .

وفي الواقع فإننا لن نحتاج إلى أية مجهود عقلي بأنّ الأحلام كافة تعطينا نوعاً خاصاً من الحرية ، وعليه فمنذ البداية تبيّن بأنّ الهدف الأساس من الرواية ارتبط بالإحساس بالحرية كما أصبحت مشكلة الحرية أحد موضوعاتها الرئيسية ، وهذا ما يذكّرنا بمقولة روسو ( ان الإنسان يولد حراً إلا أنه مكبل بالأغلال في كل مكان . وأوصى بأنّ ( الديمقراطية والتعليم وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدلاً من شانه أن يمنح كلّ الرجال الحرية التي هي حق يولد معهم ، أما شيلر فقد أعلن أن الحرية وحدها هي التي تحدت العمالقة ، وتنوّعت الروايات فمنهم من ارتكز على الإفتراض بأن هدف الحياة الشامل هو المتعة وأنه يجب أن يكون الإنسان حراً لتحقيق ذلك حتى لو تضمّن ذلك ارتكاب جريمة القتل والتعذيب ١٥”

عند انتهاء تولستوي من كتاب الحرب والسلام بدا وكانّ الشيطان قد هيمن على كلّ ملكوته فقام بإدراج مقالات طويلة تتعلّق بنظريته التاريخية الخاصة والتي تتلخّص في جوهرها على أنّ الإرادة الحرة ماهي إلا وهم وصناعة مخيالية بحتة ، ، وتتوالى الأحداث التاريخية كطوفان والنهر ، وليس نابليون وقيصر والإسكندر الكبير أكثر من أغصان وقد جرفهم النهر في طريقه ، وهو يسخر من النظرية القائلة بأنّ رجالاً مثل روسو وديدرو كان لهم شأنهم في الثورة الفرنسية ، ويقارن أولئك الرجال العظام بأگباش يسمنهم الراعي من أجل الذبح ، وهم في الأصل ليسوا عظاماً إلا ( .. لأنّ قدراً لا يمكن رده يريّد تغذية أنانيتهم الشرهة ، وهكذا فإنّ الرواية التي تكن عظمتها في عمق رؤيتها للحرية تنتهي بالتشاؤم مما يظهر ثانية أنّ المبتكربن العظام يمكن أن يكونوا مفكرين مرتبكين ارتباكاً هائلاً ١٦ …

يتبع في العدد القادم

……….

الهوامش :

١ – صفحة رقم ٧

٢ – صفحة رقم ٧’

٣ – صفحة رقم ٧

٤ – صفحة رقم ٩

٥ – صفحة رقم ٩

٦ – صفحة رقم ١١

٧ – صفحة رقم ١٢

٨ – صفحة رقم ١٢

٩ – صفحة رقم ١٣

١٠ – صفحة رقم ١٦

١١ – صفحة رقم ٢٥

١٢ – صفحة رقم ٣٧

١٣ – صفحة رقم ٥٤ / ٥٥

١٤ – صفحة رقم ٥٥

١٥ – صفحة رقم ٦٣

١٦ – صفحة رقم ٦٧

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “317”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى