في المسألة الكردية وتعقيداتها السورية
ماجد كيالي
لا تشدّني المسألة الكردية، بتعقيداتها ومداخلاتها لكوني سورياً فقط، وإنما لكوني فلسطينياً، أيضاً. إذ ربما هذه القضية أكثر تعقيداً وصعوبة من القضية الفلسطينية، فضلاً عن أنها تشبهها من بعض الأوجه. فهي تنطوي على حرمان من الوطن والهوية والحقوق، كما تنطوي على الترحيل والتغيير الديمغرافي والتمييز العنصري. وبديهي أنني أنظر إلى هذا الأمر باعتبار أن القضية السورية والقضية الفلسطينية والقضية الكردية هي جزء من قضايا الحرية والعدالة والكرامة، التي لا تتجزأ، والتي لا يمكن التعاطي معها وفقاً لمعايير مزدوجة، فأن تكون مع الحرية والعدالة والكرامة لشعب ما، يفترض أن تكون مع هذه القيم لأي شعب أخر. ولأنني أرى أن فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة والعدالة، أيضاً، وهذا هو معنى الثورة السورية، وتالياً معنى القضية الكردية، ولأنني أرى أن الفلسطينيين هم بمعنى ما أكراد، بقدر ما إن الأكراد في ذات المعنى فلسطينيون.
الإشكاليات
في مطالعتي للمسألة الكردية في سوريا، كنت وما زلت أعتقد أن واحدة من أهم مشكلات الثورة السورية، أو نواقصها، تكمن في أن الأوساط المعنية لم تقدم خطاباً مناسباً بخصوص هذه المسألة. إذ ثمة من قلّل من شأنها، بإنكارها أو تجاهلها. وثمة من رأى أن الأخذ بحقوق الأكراد يمكن أن يمسّ أو يقلّل من الهوية العربية لسورية، أو يفتح على تقسيم البلد. وأيضاً، ثمة من اعتبر أن الوعد بدولة مواطنين ديمقراطية يمكن أن يفي الكرد حقوقهم، شأنهم شأن باقي السوريين، من دون أي تمييز، مع أن الأمر، رغم أهمية ذلك، لا يتعلق بالحقوق الفردية، فقط، وإنما بالحقوق الجمعية (“القومية”)، أيضاً، طالما أن الأمر يخصّ جماعة قومية، لها لغتها، وثقافتها الخاصة.
أما عند الجماعات الكردية السورية، فلا يبدو الوضع أحسن حالاً، إذ لا يوجد اجماعات داخلها، حول ما تريده، أو حول ما يمكنها أن تحقّقه في هذه الظروف. بل هي تتنافس وتتناحر فيما بينها، هذا أولاً. ثانياً، ثمة تنافس بين نزعتين، لدى الأكراد السوريين، وجماعاتهم السياسية: النزعة “القومية” / الأيديولوجية، التي ترى الخلاص في تحقيق دولة (كردستان الكبرى)، والنزعة العملية، أو البرغماتية، التي تقر بتنمية الهوية الجمعية الكردية، وتعزيز حقوق الكرد، لكن في إطارات الدول القائمة؛ علماً أن ثمة تداخل بين هاتين النزعتين. ثالثاً، لم تنجح الجماعات السياسة الكردية، أو القوى الفاعلة والأكثر تمثيلاً فيها، بإيجاد مقاربات في الشأن السوري، يمكن تبنيها من قبل المعارضة السورية، أو معظم أطرافها. رابعاً، يفاقم من هذا الأمر شبهة انضواء “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي السوري، الذي تتبع له “قوات حماية الشعب” أو “قوات سوريا الديمقراطية”، في مشروع “حزب العمال الكردستاني” التركي، الذي يعتبر أن وظيفته الأساسية تتعلق بمناهضة الدولة التركية وتحقيق الحكم الذاتي. وهو ما ترى فيه تركيا مسّاً بأمنها القومي، وكدعوة انفصالية تهدد وحدة أراضيها. كما يؤخذ على هذا الحزب هيمنته بالقوة على مجتمع الكرد السوريين، واستئثاره بإدارة مناطقهم. علماً أن الحديث هنا لا يناقش منطلقات “حزب العمال”، وإنما يناقش اقحام تلك المنطلقات أو اعتبارها أولوية للكرد السوريين.
هكذا يظهر لنا أن ثمة إشكاليتين، وكل مشكلة منهما تفتح على أخرى، سواء في حلها أو عدم حلها. الأولى، تتعلق بانتماء أكراد سوريا للشعب السوري، مع تبعات كل ذلك بما لهم وما عليهم. والثانية، تتعلق بانتمائهم إلى شعبهم، المقسم بين عدة دول (إيران وتركيا والعراق وسوريا)، مع ما يستوجبه ذلك من تداعيات والتزامات.
وفي الواقع فإن هاتين الإشكاليتين تطرحان على كورد سوريا مهمة تحديد ذاتهم، أو تعريف هويتهم. ومثلاً، فإن اعتبارهم لذاتهم جزءاً من الشعب السوري، فإن ذلك يستوجب منهم التصرف على هذا الأساس، دون أي اعتبار أخر، مع حقهم الطبيعي والمشروع في الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم القومية/ وشعورهم بالانتماء لقومية أوسع، ومع حقهم بالمساواة مع سائر المواطنين، وضمنه مشاركتهم في تقرير شكل النظام السياسي، وصوغ الدستور والحكم. في المقابل فإن تغليب اعتبارهم لذاتهم جزءاً من الشعب الكوردي، على حساب انتماءهم لشعب سوريا، مع استخدام أعلام ورموز خاصتين، وتبني طموحات دولتية فوق سورية، تحمل سمات هوياتية – قومية، فإن هذا يعني افتراقهم عن الشعب السوري. بمعنى أنه لا يمكنك وأنت تقول بدولة كردية، أو باعتبارك لجزء من أراضي سوريا بمثابة جزء من دولة كردية مستقبلية، التورية بادعاء أنك لا تطالب بالتقسيم أو أنك تقف مع الثورة السورية، أو مع وحدة سوريا.
الشبهات
على أساس من هذه الخلفيات انبنت الشبهات في الثورة السورية، أو لدى معظم الأوساط المعارضة، التي وجدت نفسها مفترقة عن المسألة الكردية، والتي تنظر بعين الريبة إلى حزب الـ بي يي دي (الذي يترأسه صالح مسلم)، وتالياً “قوات حماية الشعب”، في شأن علاقته بالنظام السوري، أو اتهام حزبه بعدم حسمه في مسألة الوقوف مع الثورة السورية. وتستند هذه الشبهات إلى الاشتباكات التي وقعت بين قوات “حماية الشعب” وبعض فصائل “الجيش الحر” في حلب، وبعض أماكن أخرى، وإلى التنسيق الجاري بينه وبين النظام في الأماكن التي يسيطر عليها، ومنها القامشلي، وتشكيله مجالس إدارة محلية، ما يثير المخاوف من نزعات انفصالية عنده. كما تستند إلى تبعية “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي السوري إلى “حزب العمال الكردستاني” التركي، وقيادة جبال قنديل (القريبة من إيران)، مع شبهة بعد مذهبي يربط بينها وبين نظام الأسد.
ما عزز من هذه الشبهات قيام النظام بانسحابات مدروسة ومبرمجة نجم عنها تسليم بعض المناطق لقوات “حماية الشعب”، وقيام هذه القوات بعرض جثث لعشرات من “الجيش الحر”، من الذين لقوا مصرعهم في معارك معهم (عفرين أواخر أبريل 2015)، ما أضعف الصدقية السياسية والأخلاقية لهذه القوات. وفاقم من ذلك انتهاج هذه القوات تجنيد نساء أو أطفال (حسب تقارير الأمم المتحدة)، وقيامه باعتقال أعضاء قياديين من “المجلس الوطني الكردي”، بعد مداهمة مقر أمانته العامة، وتنكيله بالمختلفين معه من النشطاء.
مع ذلك ربما، يجدر بنا التنويه إلى أن مشروع “الإدارة المحلية” في المناطق الكردية أسهم فيها في تنظيم الأوضاع، واستتباب الأمن، وتوحيد جهة القرار، بالقياس للمناطق “المحررة”، التي خضعت لهيمنة جماعات المعارضة السورية المسلحة، وما يسمى “الهيئات الشرعية”، مع ما تعيشه من فوضى ومزاجية وفرض رؤاها بالإكراه على الناس. إضافة للاختلاف والتنافس وحتى الاقتتال بين الجماعات المذكورة.
هكذا، ثمة أسئلة يمكن طرحها على المعارضة، مع تفهّم تخوّفها من المشروع الكردي الفدرالي (المطروح على أساس إثني أو طائفي وليس على أساس جغرافي فقط)، وملاحظاتها على ممارسات “قوات حماية الشعب”، والإدارة الذاتية. مثلاً؛ لماذا لم يجابه مشروع “جبهة النصرة” وأخواتها، وهي المحسوبة على تنظيم “القاعدة”، بذات الموقف من “حزب الاتحاد الديمقراطي”؟، رغم أن “النصرة” لا تحسب نفسها على الثورة السورية، ولا تعترف بمقاصدها، ولها مشروعها وعلمها الخاصين، فضلاً عن أنها قاتلت “الجيش الحر”، وعملت على فرض طريقتها في الحياة على مجتمعات السوريين في المناطق التي تسيطر عليها؟. ثم ألم يكن مشروع الجماعات الإسلامية المسلحة من “النصرة” الى “أحرار الشام” إلى “جيش الاسلام” انشقاقاً وافتراقاً، بمعنى ما، عن ثورة السوريين ورفضاً لمقاصدها المتعلقة بإقامة نظام يتأسس على الحرية والديمقراطية؟. أيضاً،ّ هل المناطق “المحررة” التي تخضع للجماعات الإسلامية المسلحة، مثل “النصرة” وأخواتها هي في وضع أفضل من المناطق التي تخضع لقوات “حماية الشعب” على صعيد الحريات والإدارة والعلاقة مع المجتمع؟ وأخيراً، هل تستطيع قوى “الائتلاف الوطني” أو النشطاء المدنيين التواجد والنشاط في تلك المناطق “المحررة” مثلاً، علما أن رئيس الحكومة المؤقتة منع قبل فترة من دخول هذه المناطق؟.
القصد من طرح هذه الأسئلة التوضيح أن ثمة معايير مزدوجة للمعارضة في التعامل مع إشكاليات الحالة السورية، وأن ثمة عدم وضوح في رؤيتها السياسية، وضعف تبصّر في كيفية التعامل مع هذه الإشكاليات وسبل معالجتها أو حلها. وضمن هذا الإطار، يأتي التعامل مع المكونات السياسية الكردية، والتعاطي مع فكرة الفدرالية. وفي الواقع، فقد كان الأجدى للمعارضة السورية عدم الاعتراض على فكرة الفدرالية. وبدل ذلك، التأكيد على أن هذه الصيغة لا تعني البتّة التقسيم، ولا الكونفدرالية، بل إنها تعني وحدة جغرافية وسياسية واقتصادية، في نظام سياسي أكثر انصافاً وعدالة لمناطق البلد. واعتبار الفدرالية أحد الأجوبة الضرورية لتقويض نظام الاستبداد في سوريا، وضمان عدم إعادة انتاجه من جديد. وكنظام نقيض لفكرة التمركز والمركزية التي تفضي إلى تهميش الأطراف، وخلق حالة من النمو المتفاوت والمشوّه بين مختلف المناطق السورية. وهذا يفيد أن النقاش بخصوص الفدرالية، وغيرها، لا يتم بصورة سليمة، أو مجدية، وأنه ينطلق عند المتعاطفين في المعسكرين بطريقة عصبية، وهوياتية، وهذا لا يخدم النقاش ولا يخدم فكرة سوريا واحدة لكل السوريين. مع التأكيد أن الفدراليات تبنى على أساس مناطقي أي جغرافي، وليس تبعاً لحسابات هوياتية أثنية أو طائفية، على ما تطرحه بعض الجماعات الكردية.
استدراكات
وبغض النظر عن هذا الخلط، أو الالتباس، في النقاش، فقد يمكن تفهّم حق الأكراد بتقرير المصير، أو في الحكم الذاتي، أو أي تصور أخر. فهم لم يهبطوا بالبراشوت، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي لهذه المنطقة عبر التاريخ. مع ذلك، لابد من ملاحظة أنهم في التصور المتعلق بالفدرالية يستبقون الأمور، إذا كانوا يشتغلون أو يفكرون باعتبارهم سوريين. عدا عن أن هذا يحمل شبهات التحول الى اداة تتلاعب بها قوى اقليمية ودولية، لا تريد الخير للسوريين. وفوق كل ذلك، فإن الحديث عن فدرالية أو ديمقراطية لا يستقيم مع وجود حزب مهيمن يفرض سطوته الأحادية بالقوة المسلحة. لأن هذا سيكون نموذجاً لحزب بعث اخر، مع اعتبارنا لأيديولوجية هذا الحزب المنسجمة مع نظيره “حزب العمال الكردستاني” في تركيا. أما في الحال الأخرى، إذا حسم الكورد الأمر باعتبارهم غير سوريين، أي ككورد يريدون انتزاع دولتهم القومية، وضمن ذلك ما يعتبرونه أرضهم الخاصة من سوريا، في هذه الظروف الصعبة والدقيقة، فهذا شأن أخر. ويخشى أن هذا سيضعهم في مشكلة أخرى، وازاء حروب اهلية أخرى، ووقوداً لمأرب دولية وإقليمية، بغض النظر عن رأينا بمظلومية الكورد التاريخية، وعدالة أو مشروعية حقهم في دولة قومية، في أراضيهم المتوزعة بين إيران وتركيا والعراق وسوريا. وبغض النظر عن رأينا بخصوص فوات الدول القومية (أو الدينية) الهوياتية، سواء كانت عربية أو كردية أو أي شيء اخر.
هذا ينطبق على المعارضة السورية، أيضاً، إذ يفترض منها أنها معنية بتمثيل كل السوريين، وتمثّل مصالحهم، وضمن ذلك الكرد، بغض النظر عن أي شيء أخر. أي بغض النظر عن وجود اتجاهات كردية مخالفة، وبغض النظر عن وجود دولة حليفة، لها رأي أخر في المسألة الكردية (تركيا مثلاً). وبمعنى آخر، المفترض من المعارضة أن تكون هي المعنية باستيعاب قضية الكرد السوريين باعتبارها مسألة وطنية سورية، أولاً، وثانياً، بخصوص فتح حوار مع تركيا للتوصل لقناعة مشتركة في هذا الملف يأخذ في اعتباره المصلحة السورية، وليس فقط المصلحة التركية. فهذا هو دور المعارضة السورية. وهنا تكمن مصداقيتها. ولا ينبغي ترك هذا الدور تحت أي اعتبار. لأن من شأن ذلك إبقاء الكرد في إطار تجاذبات وتوظيفات مضرة، لهم وللقضية السورية. كما أن ذلك يقدم خدمة جلية للنظام.
من جانب أخر، فإذا سلمنا أن من حق الكورد الاطمئنان على مستقبلهم كجماعة قومية، وضمان عدم العودة لعلاقات التذويب أو المحو، والحرمان من الهوية والحقوق، ففي المقابل من حق المعارضة، أيضاً، التخوّف من أية مشاريع توظّف المخاوف الكردية باتجاه تقسيم البلد. ما يفيد بأن الطرفين معنيان بإزالة المخاوف والشكوك المتبادلة، والتوصّل إلى قواسم مشتركة.
المشكلة أن هذا النقاش لا يحصل بطريقة سليمة، وبقصد الوصول الى تفهّم متبادل، أو إلى اجماعات أو قواسم مشتركة، وإنما يحصل كأنه في ساحة حرب بين معسكرين، أو خندقين، متواجهين. الأمر الذي يصبّ في مصلحة النظام ،ويظهر الأطراف الأخرى باعتبارها ليست اهلا للثقة، أو يظهر افتقادها للأهلية والمسؤولية. طبعاً ربما يمكن تفهّم ما يجري باعبتاره جزءاً من أعراض الانفجار السوري، ومما يمكن اعتباره جزءاً من حرب أهلية سورية، دخلت على واقع الثورة، بغض النظر عن مقاصده، حيث ثمة ضحايا في مواجهة ضحايا. لكن استمراء هذه الحالة، وتكريسها، لا يفيد الكورد ويضر المعارضة ويضعف صدقيتها بخصوص تصورها لسوريا المستقبل.
المعنى أن الأسئلة بخصوص المصير والمستقبل السوريين تخصّ جميع مكوّنات السوريين. الجميع معني بهذا النقاش. والأجدى للسوريين، عرباً وكرداً ومن كل المكوّنات، حثّ حلول لسوريا المستقبل تنطوي على الفدرالية والنظام البرلماني، بدل الرئاسي، في نظام ديمقراطي يتأسس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين. لأن العكس من ذلك يحتمل اعادة انتاج نظام الاستبداد والاقصاء والتهميش. وبالتأكيد فإن السوريين لم يقدموا كل هذه التضحيات من أجل ذلك.
هذه هي مطالعتي للمسألة الكردية في سوريا، من منظور الثورة الوطنية الديمقراطية، التي تتمثل مصالح كل السوريين، عرباً وكرداً، ومن كل المكونات، في هذه المرحلة من تاريخ التطور السياسي والاجتماعي والثقافي للمنطقة.
المركز الكردي السويدي للدراسات
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأيYekiti Media