في النقد البنيوي للعقلية الحزبية.. الحركة الكوردية في سوريا أنموذجاً
وليد حاج عبد القادر
بداية وعلى الرغم من السنين الطويلة التي مضت على تنظيم الحياة السياسية الكوردية بكوردستان سوريا وتحولها إلى حزب ضم آنذاك كل المنظمات والجمعيات سنة 1957 وما تلاها بعد ذلك من تراكم لتجارب نضالية أفرزت كثيراً من المعطيات كنتاج لإفرازات الواقع الممارس في كل مرحلة منها، سواء كردياً / بينياً داخل الإطار / الأطر التي تشكلت تالياً، أو حتى داخل الإطار المتأشكل ذاته لاحقاً، وهنا، وبالتوازي مع تجربة كوردستان العراق، وعلى الرغم من وجود كارزمات قيادية وبتواتر تجاربهم الحربية ومخاضات عمليات سلام عدة، كانت نخبة القيادات الكوردية في كوردستان العراق/ على عكس القيادات الكوردية السورية / تتحرر من عقدة النقص تجاه الطبقات السياسية المختلفة في العراق، وخاضوا وبجرأة مرحلة التطور إلى رجالات دولة بعد فترة قصيرة لنزولهم من الجبال.
وبإيجاز هنا فإن ما حصل من ردة فعل المركز بخصوص استفتاء الاستقلال وما اتخذته من خطوات عقابية في خرق للدستور وباسم تطبيق الدستور وسعت بكل الوسائل التي ملكتها في محاولة جذب كوردستان إلى واقع ما قبل حرب الخليج الأولى، إلا أنها فشلت، ومعها، وبالرغم من بعض الاهتزازات التي حدثت داخل الإقليم نفسه وكظاهرة طبيعية في هكذا حالة، إلا أن المشهد بدأ يوحي بأن الأمور أخذت مجراها في العودة التدريجية إلى ما قبل سلسلة الاجراءات العقابية المفرطة من المركز، لا بل وإن الدستور بحد ذاته سيمكن كوردستان من الحصول على حقوقها وبهدوء وروية.
هذا الأمر يساق كأنموذج فيه عبرة لأنه وبالرغم من تتبعات ما جرى في طوز خورماتو وكركوك، إلا أن جميع الفرقاء تساموا عما جرى وسعوا إلى تضييق الشرخ إلى أصغر جزئية ممكنة سوى بعض المهرولين الذي كانوا في الأساس هم من صناع ذلك الشرخ، وفي الواقع الكوردي في كردستان سوريا مورس عكس ذلك تماماً، لابل تم إقصاء تجربة كوردستان العراق في شطب ممنهج لما بعد سنة 2004، وأخذت منها بقع سوداء ترفع ككارت أحمر، إن لوجود تشكيلات عسكرية متعددة، أو حتى نمطية – التسيد – السياسي واتباع أنموذج النظام ذي التوجه الواحد والمطوقة بإطار ما تجاوز في شكلها نطاق النظام – الجبهوي – كما كانت في العاصمة دمشق.
إن مجريات المسألة السورية وما أفرزتها من صراع الهويات وضمن الهوية الواحدة، ورغم ضخامة وتسارع الأحداث، وبالتالي فإن ما يحدث في كوردستان سوريا التي كبلت بعقلية مؤدلجة وسيف مخون للمختلف وباحتكار كامل للحقيقة المؤدية بداهة إلى مسلك التقية في – المقاومة حياة – وهنا هي بالضبط الإشكالية الموسومة في هاتين الكلمتين شعبوياً، واللتين قد لا نختلف فيهما معهم سوى في شرح المتن الممارس كأدلجة لمفهومية المقاومة وما تعنيها من ناحية، ومآلاتها كرؤية ونتيجة، وبصورة أوضح في آلية هذه المقاومة ومفهومها وما ستفرزها من نتائج لعملية المقاومة تلك بالمقارنة مع ما تأسست عليها ولها الحركة السياسية الكوردية، وما تتطلع إليها كجماهير تسعى لانتزاع حقوق شعب يعيش على أرضه، وبملمح صريح لا تحتمل المواربة أو الاختباء وراء مصطلحات مطاطة ومغلفة تتمأسس عليها وكنتاج لها ثانية مستقبل هذا الشعب وآماله المنشودة، والتي بذلت في سبيلها جهوداً نضالية كثيرة وفق خصائصية الحالة والمرحلة الكوردية والسورية، ومع تغيير نمطية النضال وما فرضته السنين الأخيرة حيث خاض الكورد / يفترض أنهم كرد / معارك وسقط المئات من الشهداء.
وللحق، وعند هذه النقطة تحديداً، سأعود إلى طرح تلك الإشكالية التي بدأت منها وبجدليتها المستدامة – وأعني بها – مع بدايات التأطر السياسي حزبياً في الوسط الجماهيري الكوردي / وشخصياً مذ وعيت / كانت هي وبقيت عينها الإشكالية التي مورست بمنهجية الإبعاد للمنافس / المختلف وكوسيلة للإيقاع البنيوي ذاتياً أو / وكتعميم ممارساتي حتى من النظم الغاصبة لكوردستان وفي ساحات نضالاتها بالأجزاء الأربعة / وللاختزال هنا، وبعيداً عن التنميط التأريخي رغم وضوح مفاصل المراحل، وفي عودة إن لكلاسيكيات النضال في القرن الماضي/ وكأنموذج ومن خلال تجربتي الشخصية في الحركة الكوردية في سوريا لأكثر من أربعة عقود ! / كانت ولا تزال تمارس سايكولوجية ممنهجة في غالبية أحزابنا، والتي سعت إلى استبدال الحزب بالقضية وخلق تابعية ومن ثم زرع حالة من الرهاب المقرف وسط تراتبيات تنظيمية تنوعت وتعددت بكل أسف بالتشظي وأنتجت حالة تقبل سطوة كل الهويات الأخرى في قمع ذاتوي على حد توصيف مصطفى حجازي، وبالتالي تعميمها كسلوك أخذ يتمنهج في تسريبية مرعبة هدفها التخويف الممنهج وكحالة عصابية وازت التدرج، وأيضاً الممنهج تنازلاً في نصوص البرامج والمناهج ومعها التعابير والمصطلحات المفرغة مسبقاً من أي فحوى، وترافق مع خلق حالة رهابية في صفوف القواعد والجماهير وبات النظام ومؤسساته القمعية خاصة بعبعاً يزرع في دماغ الحزبي المتلقي لمفهومية الحقوق من جهة وآليات النضال في سبيل نيلها منحاً أو انتزاعاً.
هذا المسلك أدى بالقضية القومية إلى الانكفاء في قمقم الرعب وبات كل من هو غير كوردي مشروع لكتابة تقرير للجهات الأمنية وبقيت القضية الأساس محصورة في حلقات الاجتماعات واللقاءات الحزبية، هذه الظاهرة لامسها المناضلون المعتقلون في سجون النظام حتى عند النخب السياسية المعارضة في جهلهم التام لما يدور وراء جدران اجتماعاتنا الحزبية، أو أقله، آليات التواصل التي لا تزال منعكسة في ذهنية غالبية المعارضة السورية، ناهيك هنا، ما كان يلقن للحزبي المستجد في آلية التعاطي مع من تسعى لانتزاع حقوق شعبك من بين مخالبه، هي تلك التربية الحزبية كانت بفرماناتها: لا تناقش.. لا تتكلم كثيراً.. أجب بنعم أولاً.. لا تقر بأنك حزبي أو منظم../ وهكذا القيادي المكشوف لغالبية جماهير منطقته وهو يتمختر في المناسبات كان محكوم عليه أن يتنكر لكل شيء، بما فيه التحزب، لا بل ومفهوم السياسة على الإطلاق.
وأمام الانكشاف الكبير بالتوازي مع تطورات مراحل الثورة السورية أخذت الأمور تنكشف بصورة أوضح وفي نطاقية الهويات كل على حدة، ظهرت بالتتابع الدرجة التي كانت قد وصلت إليها اليد الأمنية الغميقة وأخذت جميعها تتمظهر وفق الزمن المحدد لها وبحرفية واتقان، فتداخلت معها التوجهات والمسارات، وطبيعي ألا يكون المخترقون كتلاً وجماعات كلهم في لون واحد أو توجه محدد، إلا أنها ورغم كونها ظاهرة معتادة من نظام استدام وتوغل عميقاً بواسطة أذرعه الأمنية، إلا أن أشد ما كان يضر ولا يزال هي تلك الشعارات الطائرة في فراغات لا تودي ولا تنتج من ناحية، ولتنكشف من ناحية أخرى بعد القضاء على الإرهاب بأن مرحلة التحكم بفائض القوة الممنوحة قد حان سيما بعد تجربة خفض التصعيد، هذا الأمر الذي حذرنا منه الأطر السياسية الكوردية في سوريا أولاً في صعيد العلاقات مع القوى العظمى والدول المحيطة دون ضمانات وكذلك منهجة الاستبداد البيني كممارسة عملية تتوافق مع الأسوأ دائماً مقارنة مع النظام وقمع عنيف للمختلف لتتبدى رغم نفي الممارس لذلك وكأنها تقية أو ضمانة لإثبات حسن النية إذا ما اعتبرناه ولاء.
إن مجريات الأحداث الأخيرة بكوردستان العراق وفي أغلب مساراتها فيها تجارب مفيدة، حيث استطاعت قيادتها السياسية وببراعة وضبط للنفس يحسب لها، الحفاظ على السلم البيني وبقوة محكمة عكس فائض القوة الممارسة في الجزء السوري من كوردستان، والتي حتى في اليوم الثامن عشر من العدوان التركي تعتقل سياسيين وترسل آسايشها لاعتقال آخرين مختلفين معها سياسياً داخل مدينة عفرين.