آراء

في تطويع القضية القومية واستلابها

وليد حاج عبدالقادر

في واحدةٍ من أروع و أقوى الخطابات التي ألقاها الزعيم الكُردي مسعود بارزاني ، والتي تُعدُّ بحقٍ واحدةٌ من أقوى الخطابات التي ألقاها في مهرجانٍٍ خطابي من مهرجانات الاستفتاء على حقّ تقرير المصير في مدن الجزء الملحق بالعراق من كُردستان ، لخّص فيها و كعنوانٍ بارزٍ ، سريالية النضال الكُردي في كلّ أجزاء كُردستان ، ذلك النضال المستمرّّ ، وبتصميمٍ وتحدّيٍ وجوديٍ ، اختزلها الزعيم الكُردستاني ، وبحكمةٍ نضاليةٍ مستمَدّةٍ من تجربته العملية حينما قال : ( لن تستطيع أيّة قوةٍ ان تكسر / تحطّم إرادتنا ) . هذه الحكمة التي أفرزتها تضحيات شعب كُردستان منذ بدايات نضاله القومي ، وبروحٍ ثوريةٍ اختلطت في كثيرٍ من الاحايين بمخاضاتٍ دمويةٍ عنيفةٍ ، بينية منها ، أو مع النظم المغتصِبة ، وإنْ واكبتها لمراتٍ عديدةٍ لحظات يقظةٍ وعودةٍ حميدةٍ الى القضية الأساس ، مدّاً كانت أو تقلّصاً ، وذلك في الشروحات التفسيرية للقضية القومية وآليات الحلول الموائمة لها ، وباختصارٍ هنا ، فإنّ ما تناقلته الذاكرة الجمعية الكُردية شفاهاً وبالتوارث إلى الأجيال اللاحقة ما صعّبَ على مؤرشفي التاريخ تدوينها ، بالرغم من دموية فصولها وفظائعها ، ومع ذلك أصبحت ركائز نستخلص منها ما أفرزته – تفرزه تلك التجارب ببديهياتها المتكرّرة ، كنتاجٍ فعليٍ لتلك المخاضات المتتالية ، وبعناوينها التي أماطت اللثام عن حقائق صريحة ، يمكن اختزالها على أنه : حينما تتغلّب النزعة الدوغمائية / الدعائية على الهدف الأساس ، وتصبح البروباغندا هي الغاية التي يجيز لها كلّ الوسائل ! وتصبح الأهداف لحظتها هائمة ، تبحث لها لا عن موطئ قدمٍ لتؤسّس عليه ، بل أجنحة تدفعها لتحلّق في فضاءاتٍ لا مرئية ، وبأبعادٍ تخلو من أية ركائز تستند عليها لتؤسّس ، وفي تناقضٍ يؤدي إلى افتراقٍ وشرخٍ بنيوي لأسس الواقعية السياسية المفترَضة ، وكمثالٍ عليها ، ما يفترض في قانون نفي النفي ، بأنّ الغاية هي ليست في أن تقتلع الشجر من الجذور ، بل أن يكون تشذيبها هو الهدف .
إنّ الاستهداف البنيوي للقضية الكُردية هي ليست بحالة مفترَضة ، ولا وهماً من نتاج نظرية المؤامرة ، بل هي حقيقة واقعة ، تتمظهر بوضوحٍ ، وترتدُّ كانعكاسٍ حقيقيٍ في جوهرها الذي تأسّست على مجريات تاريخية متعدّدة ، تقاطعت إنْ – لم نقل – تقمّصت نزعة المناحات التاريخية وبارتداداتها المنعكسة عمقاً في مجاهل الصراعات البشرية ، وفي استجلابٍ لحروبها حتى من مراحل بعيدةٍ جداً في تاريخنا المعاصر ! .
إنّ ما قرأناه وما سمعناه عبر صيرورة المجتمعات ، منذ بدايات التاريخ البشري وحتى عصرنا الموسوم بالمعلوماتية ، أنّ غالبية الأيديولوجيات بقيت كترفٍ مورس في حقبةٍ ما ، وانزاحت لتدخل المتاحف وتدوَّن في أرشيفاتها ، كانعكاسٍ عمليٍ لتجاهلها الأسس المفترَضة في البناء عليها ، وتسخيرها لحقوق شعوبها كرافعاتٍ تستهلكها بالضدّ من طموحات وحقوق تلك الشعوب . وقد اثبتت التجربة السوفيتية ومخلّفاتها أنموذجاً عن الأفق الضيق والفهم الخطأ للشيوعيين الذين رموا بقومياتهم خلفهم ، وليستفيقوا على الجهد الذي أضاعوه كقوةٍ فائضةٍ في خدمة نزعاتٍ مؤدلجة ، بدل صرفها في الخاصية القومية لحاملها وتطويرها . ولعلّ الأسوأ في هذا التيار المؤدلج هو نزعة الاستبداد البيني ، كنتاجٍ طبيعي لظاهرة التوحُّد من جهة ، وكإفراز عملي لعدم وضوح الرؤية ، وسرعة التحوّل من تقية إلى أخرى كموضةٍ ، وإنْ شابها نوع أو مسلك ممزوج برهابٍ استبدادي ، وهنا إنْ تمّ قبول الأمر الواقع والسكوت عليه ، فلن تنتج حينها سوى نسخة مشوهة لمهانة الخضوع وتنفيذ تعليمات المستبِدّ بكلّ فظائعه ، وستتتالى المفاهيم في الحالة هذه لتختلط في تناقضاتها العجيبة ، أو تُداس بالأبواط العسكرية وأيضاً بمسمّى تعاريف الثورة ، فتتوالد معها الشرعيات الثورية بمحاكمها التفتيشية التي تخوّن الثائر الحقيقي وكلّ مَنْ يتجرّأ ويبوح بالحقيقة ، أو يقرّ بهزائم أو أية انكساراتٍ ، كلّ هذه الأمور تُمارَس بالضدّ ممّا هو مطلوب على ارضية التراجعات الكبيرة والتي تفترض ، لابل تستوجب إعادة صياغة التوجّهات واستدراك الخلل فيها قبل حصول الهزيمة ، ومع إدراكنا الكامل لصعوبة هذه المعادلة ، ومعها الفرق بين خاصية كُردستان وقضايا أوطان وشعوب أخرى ، وكذلك الانتكاسات التاريخية بظروفها الذاتية والمحيطة ، إلّا أنّ هدف أعداء كُردستان وشعبها بقي يرتكز على أنّ الكُردي كإنسانٍ بشجره وحجره هو هدف مشروع ، وللأسف الشديد ، فقد وفّرت بعض القوى الكُردية كلّ المقوّمات الرئيسية للنسف البنيوي ، من خلال استحداث تعاريف مستورَدة و بتوصيفاتٍ غريبةٍ وعجيبةٍ لمفاهيم التخوين وغيرها ، وذلك بالالتجاء من جديدٍ إلى طوباوية الأيديولوجيا وقداستها ! . والتي ترى فيها وحدها الطهرانية ، وكمقدّساتٍ لا تجوز المساس بها أو مناقشتها ؟ كما ـ الكتب السماوية وسيرة الأنبياء والرسل – . إنّ من أهمّ ما يخشاه المؤدلجون في مرحلة تحوّلهم إلى الاستبداد ، هي تلك التحوّلات القداسيوية المتبدّلة كنتاجٍ فوضوي لفائض القوة والهيمنة ، كما والسرعة المتوجّبة استيلادها للموائمة مع متغيّراتها ، ولكن شريطة الإبقاء على أمورٍ ثلاث : إلغاء كلمة الهزيمة وتحويلها بالمطلق إلى انتصاراتٍ عظيمة في التاريخ المعاصر ، والثانية هي تقية الشهادة والشهداء بغضّ النظر عن المناطق والأهداف التي استشهدوا من أجلها ، والثالثة وهذا هو الأهمّ ! القائد الضرورة ، والذي لولا – بركات – فكره ونظرياته لما وجدت في الأصل العاملَين السابقين ! . هذه الحالة لابدّ لها أن تذكّرنا بمقولة مسؤولٍ مصري كبيرٍ بعد نكسة حزيران سنة ١٩٦٧ عندما صرّح على الرغم من الخسائر الكبيرة : نحن لم ننهزم ، نعم ! فالأهمّ عندنا من كلّ شيء هو بقاء الحزب ، وهاهو الحزب بقي صامداً وسيستمرّ ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى