في جدلية العلاقة بين السياسة والأخلاق وأحلامنا الكُردية السورية
شاهين أحمد
لانعلم ، أهو لسوء طالعنا أم لحسن حظنا أننا ننتمي إلى أحد أهم الشعوب الأصيلة في الشرق الأوسط، وهو الشعب الكُردي الذي بقي كالأسد في حماية مملكته كُردستان، يعيش في منطقة ٍ شكّلت ميزوبوتاميا نواتها الحضارية المتوهّجة ، حيث كانت منبعاً للروحانيات ، ومنبتاً لغالبية الأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم إبراهيم الخليل ” جدُ الأنبياء ” عليهم السلام ، وعلى جبالها الشامخة – جبل جودي – رست سفينة نبي الله ” نوح ” عليه السلام ، تلك السفينة التي أنقذت البشرية ، وحافظت على الكائنات الحية من الهلاك .
شعبنا الذي وصفه الجندي والمؤرّخ والفيلسوف اليوناني كزينوفون ( 427 – 355 ) ق . م ، أي قبل نحو أكثر من 2400 سنة بالمحاربين الأشدّاء الشجعان ، ووصفه الباحث والدبلوماسيٌ الكبير ويليم إيغلتن الابن بأنهم – الكُرد – فرسان الشرق وقريش العجم ( كناية عن قبيلة قريش المعروفة والمستعربة والتي عُرفت عنها الفروسية والشجاعة ،وينحدر منها خاتم الأنبياء ” محمد ” عليه الصلاة والسلام، وهو من سلالة سيدنا إبراهيم خليل الكُردي.
كُردستان التي انطلق منها شعبنا في تأسيس إمبراطورياته – على سبيل المثال لا الحصر الساسانية والميتانية والميدية والسومرية والأيوبية ….إلخ – خلال مراحل تاريخية مختلفة ، هذا الشعب العظيم الذي كانت تربطه علاقات مصاهرة مع فراعنة مصر العظام وخاصةً في عهد الامبراطورية الميتانية وملكها ” آرتاتاما ” ، قبل أن تتعرّض المنطقة وشعبها الأصيل لغزوات الهمج ، هذا الشعب الذي حُرِم من كيانه القومي ودولته المستقلة في العصر الحديث، و قُسِم وطنه على مرحلتين كانت الأولى بعد معركة جالديران عام 1514 بين العثمانيين والصفويين حيث قُسّمت كُردستان رسمياً بموجب اتفاقية قصر شيرين المعروفة سنة 1639 إلى قسمين ، ومن ثم إلى خمسة أجزاءٍ بعد أن تقاسمت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وبموجب اتفاقية سايكس – بيكو سنة 1916 بين فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا القيصرية وخروج الأخيرة من الاتفاقية بعد قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية فيها بقيادة فلاديمير لينين سنة 1917 . حرمان شعبنا من كيانه المستقل أسوةً ببقية شعوب المنطقة، وممارسة شتى صنوف الظلم والاضطهاد بحقه ، وتنفيذ عشرات المشاريع الشوفينية والاتفاقيات الأمنية بين الدول التي تتقاسم وطنه، هدفت لمحو خصوصيته وطمس هويته القومية ، جعل شعبنا مكلوماً مقهوراً مكسور الجانب في غالبيته ، بالرغم من عشرات الانتفاضات والثورات والحركات التي قامت في مختلف أجزاء كُردستان ، وأراد شعبنا أن يعبّر من خلالها برفضه الواقع المفروض عليه، وتأكيده على حقه في تقرير مصيره بنفسه، إلا أنّ المصالح الدولية كانت بالضد من مصالح شعبنا في مختلف المراحل . في هذا الواقع تأسّست التعبيرات السياسية – التنظيمية الكُردية، ففي كُردستان سوريا حيث ملعبنا وساحتنا النضالية تركّز عمل أحزاب حركتنا التحررية الكُردية طوال أكثر من نصف قرنٍ على الجانب التوعوي والتثقيفي النظري، وغلب على السيستم الممارس داخل الأطر التنظيمية – بالرغم من الاختراقات الأمنية ،والأنانية ودورهما في التشرذم – نوع من التربية والتثقيف الملائكي المفعم بالمبادىء الأخلاقية،وإعتبار ذلك الأساس في العمل والتفكير، حيث أدّى هذا السيستم المثالي إلى نشوء أجيالٍ ملائكية حاملة لمشروع قومي سياسي كبير ومعقد ومتشابك بين دول المنطقة ، ومصيره خاضع لتوافقات ومصالح دولية كبيرة ، تغيب فيها المبادىء بشكلٍ شبه دائم وكامل ، ويطغى عليها المصالح بشكلٍ دائم، ويستخدم لتحقيق تلك المصالح مختلف صنوف العنف والقتل والترهيب دون أن تحرّك الهيئات المعنية بحقوق الإنسان ، ومؤسّسات الأمم المتحدة المعنية ساكناً.
مناسبة هذه المقدمة كانت لوضع القرّاء الأعزّاء بصورة المناخ الذي حوّل هذا الشعب الشجاع من فرسان ومحاربين أشدّاء إلى نموذجٍ ملائكي ، وبدأ التباين أكثر بين شريحةٍ غادرت الوطن قسراً نتيجة ظروف الحرب المفروضة واستقرّت في دولٍ تتمتّع بمساحاتٍ جيدة من حرية التعبير وحقوق الإنسان ، وبين مَن بقي على أرض الوطن ،وهنا بدأت معاناة من نوعٍ آخر، بين الحرية المتاحة في الاغتراب، وبين واقعٍ ينزلق نحو الأسوأ حيث مازال العنف والقتل والخطف والحروب تشكّل جزءاً من حياة مَن بقي يصارع بقايا الأمل على أرض الوطن ومحيطه، حيث يلجأ هؤلاء الأعزّاء – شبابنا في الشتات – الذين نعلّق عليهم آمالاً كبيرة بالعمل في مختلف مجالات العلوم الحديثة ، ليشكّلوا نواة بناء المستقبل بعد التخلص من الدكتاتوريات . وبالتالي هذه الشريحة التي لا ترى بكلّ مايجري من حراكٍ تعبيراً عن طموحاتها وتطالب حركة شعبنا وممثليه أن يغيّروا البرامج ومسارات العمل والحلفاء، ورفع شعاراتٍ ربما تفوق إمكانات دولٍ ، ويصل الأمر ببعض هؤلاء الأعزّاء برفض كلّ ماهو قائم ، وعدم التحالف مع ممثلي مكوّنات الشعب السوري الموجودة دون أن يقدّموا البديل !. وهنا ثمة أسئلة تطرح نفسها علينا وعلى هؤلاء الأعزّاء :
هل هناك شركاء آخرون أفضل ولو بقليلٍ من الحاليين كي نغيّر تحالفاتنا؟
ومَن هم هؤلاء؟
نريد مسمّيات واضحة وليست عبارات عامة.
هل هناك في الواقع خط ثالث حقاً؟ ومَن هم أصحاب هذا الخط المتلوّن الذي ألحق ضرراً بالغاً بقضية شعبنا ؟. أليست السياسة هي ممارسة الممكنات ، واختيار الأقل سوءاً ،طالما أنّ المفاضلة بين السيء والأسوأ ؟. لماذا كلّ هذا التحامل والتجنّي على أحزاب حركتنا التحررية الأصيلة ، وعلى مَن يناضل في صفوفها من أجل الحفاظ على ماتبقّى من أبناء شعبنا على أرض الوطن ؟.
والسبب الآخر الذي دفعني للخوض في هذه الجدلية ، وإثارة العلاقة بين السياسة والأخلاق ، هو مايجري بالضبط في وسطنا الكُردي السوري من تمنيّاتٍ حول ضرورة تجاوب القوى المحلية والإقليمية والدولية مع قضية شعبنا لأنها عادلة !. في ظلّ الأجواء السورية المزدحمة بصور العنف ، ومشاهد القتل والإرهاب ، وتنامي لغة الكراهية ، وسيادة منطق القوة المفرطة في رسم مسارات حياتنا المستقبلية بكلّ تفاصيلها ، وفي أجواءٍ من التحلّل التام من الضوابط والقيم الأخلاقية. بدون أدنى شك نعلم أنّ السياسة في تعريفها البريء : هي جملة أساليب و طرائق لقيادة الناس وإدارة شؤونهم بكلّ ما فيها خير الناس ومنفعتهم . وأنّ الأخلاق : هي ترسانة من القيم والمثل العليا والضوابط التي تتحكّم بسلوك البشر لتجنيبهم الوقوع في المهالك والانحرافات ، وربما في مراحل تاريخية سابقة كانت تتقاطع السياسة والأخلاق في مساحات مهمة من التزاوج لبناء شكلٍ معيّنٍ من العلاقات الإنسانية ووفق مبادئ وقيم للصالح العام ، ولكنّ اليوم بكلّ أسفٍ أصبح الحقلان متنافرين تماماً والمسافة بينهما أصبحت شبه ثابتة ، يكاد المرء يشعر وكأنه أمام محورين متوازيين بإتجاهين متعاكسين!.
ومن الأهمية بمكانٍ هنا الإشارة إلى أنه لم يحصل في أية مرحلة تاريخية أن ابتعدت السياسة عن الأخلاق كما هي عليها اليوم، نستطيع القول بأنّ العالم المعاصر حياته وعلاقاته باتت أقرب إلى حياة الغابة التي يتصارع فيها الكلّ بشراسةٍ ، ومن يتجنّب الوقوف في أحد الخنادق يتحوّل إلى ضحيةٍ مؤكّدة ، نظراً لأنّ الشحن والصراع وصل إلى مرحلةٍ حدية لاوسطية فيها ، فإمّا أن تكون مُفتَرِساً أو مُفتَرَساً ، هكذا تقول الوقائع في الميدان.
ربما يتفاجأ قارىء عزيز بهذا الكلام الذي يشكّل صفعةً قوية وصدمةً غير متوقّعة ، لأنّ الفلسفة السياسية في الأساس كانت يوماً ما فلسفة أخلاق . والرابط الوثيق بين ماهو سياسي وماهو أخلاقي لايعاني الاهتراء فحسب بل انقطع تماماً وفي أكثر من نقطة ، وأصبح هذا الرابط يشكّل أحد أهم عيوب السياسة والسياسيين !. ومَن يلتزم به يُعتبر فاشلاً ، لأنّ معيار النجاح يُقاس بمدى الربح والخسارة في كلّ حركةٍ و موقف ، وبالتالي ليس هناك أي دور ملموس للمبادئ والأخلاق والمشاعر الإنسانية في هذا الحقل.
والنظرة السيئة تجاه السياسيين لم تأتِ من فراغٍ ، وذلك بسبب دوام المعاناة والمظلومية في أكثر من موقعٍ وخاصةً تجاه الأمم المستضعفة كأمتنا الكُردية ، وتحت أنظار الحكام وكبار قادة العالم دون أن يحرّكوا ساكناً . وبما أنّ السياسة وجِدت كي تدير شؤون عامة الناس وحلّ مشاكلهم ، والعمل على إحلال السلام بدل الحروب ، فقد تحوّلت اليوم إلى نوعٍ من إدارة الأزمات لديمومة الحروب من أجل استمرارية المصالح بغضّ النظر عن حجم المآسي وهول الكوارث وأعداد الضحايا . ومما زاد الطين بلةً ، مزج الدين بالسياسة ، كما حصل في أوروبا سابقاً قبل عصر النهضة ، عندما كانت الكنيسة تتدخل في شؤون الدولة تماماً، يحصل في منطقتنا اليوم حيث نرى أئمة الجوامع ومرجعيات الحسينيات هي التي تقرّر مصائر الشعوب والحكومات والبرلمانات في منطقتنا !. بدون أدنى شكٍّ إنّ اعتماد الميكافيلية في العمل السياسي لصالح الدكتاتوريات وفق مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة ، وتمادي الظالمين وتجاوزاتهم لكلّ القيم الإنسانية لحفظ مصالحهم الخاصة على حساب مصالح عامة الشعب كان أحد أهم أسباب الطلاق بين السياسة والأخلاق ، وذلك بالرغم من أنّ تاريخ كلّ الحركات و الثورات ومنها ثورة شعبنا السوري كانت تعتمد الحرية والكرامة والمساواة ومختلف القيم الإنسانية . وبالرغم من الدعوات والمحاولات المتكرْرة من جانب المهتمّين في هذا الشأن ، والحالمين بوضع ضوابط لإنتاج نمطٍ معين من المبادئ في الحقل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية التي من شأنها الحفاظ على الحدّ الأدنى من المبادئ الأخلاقية في حقول السياسة ، والحدّ من الميكافيلية المفرطة وطغيان كفة المصالح السياسية ، إلا أنّ المعطيات الموجودة لاتبشّر بحصول أية معجزةٍ في هذا الجانب ، مما يعني بأنّ شريعة الغاب ستبقى هي المسيطرة في المدى المنظور . نعم عندما كانت الأخلاق هي التي تحدّد المساحة المسموحة لتحرّك السياسيين ، كانت حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة هي الغاية الأساسية في مسارات السياسة وغاياتها ، وعلى هذا الأساس كانت تتحدّد وسائل الكفاح والنضال والعمل ووفق معايير أخلاقية دقيقة ، وبقواعد وضوابط قانونية لضمان عدم خروج السياسيين عن السكة.
ختاماً ، ما أردت أن ألفت عناية القرّاء الأعزّاء يتلخّص في : أنّ العالم اليوم بات يعيش تحت رحمة أصحاب القوة والنفوذ ، والعلاقات الإنسانية باتت أقرب وأشبه بشريعة الغابة ، حتى في العمليات الانتخابية التي تعتبر إحدى أهمّ الممارسات الديمقراطية نجد أنّ المال وكذلك القوة لهما دور كبير في نتائجها !. لذلك نلاحظ أنّ نتائج الانتخابات في غالبية الدول التي تعتبر ديمقراطية عبارة عن عملية تبادلية بين أصحاب القوة والنفوذ ،ولنا ككُرد تجارب مريرة في هذا الجانب . وبالتالي نصل إلى استنتاج مفاده أنّ الأخلاق والسياسة لن تلتقيا لا في عصرنا ولا في المدى المنظور، وخاصةً في منطقتنا التي تعاني الكراهية والإقصاء والتطرّف والعنف والإرهاب ، وأنّ إمكانية التلاقي والتفاعل ستحصل فقط في أجواء الحرية والوسطية والشراكة والتوافق .