أخبار - سوريا

قصة الأميرة الميدية ماندانه (3)

جان كورد
11 October 2014
في اليوم التالي بدأت وليمة فخرة في قصر الملك، فكانت رائحة اللحم المشوي تفوح من صينية كبيرة وضعها الخدم أمام الوزير هارباخ الذي كان يبدو جائعاً للغاية، شرع الملك والضيوف الآخرون يتناولون طعامهم وهم يضحكون، ولكن هارباخ ما كان يعلم أنه يتناول لحم ولده الذي أمر الملك بذبحه وشويه وتقديمه لأبيه من دون الضيوف الآخرين. وكان قد أمر بوضع رأس الولد الضحية ويديه وقدميه في سلّةٍ بالقرب من المكان. ولما شبع الضيوف سأل الملك وزيره عما إذا كان الطعام قد أعجبه، وعما إذا كان يعرف ما الحيوان البري الذي أكل من لحمه، فأجاب الوزير بأن اللحم المشوي كان لذيذاً للغاية، ولم يذق مثيلاً له من قبل. وأحضر الخدم السلة، فقال الملك: “خذ هذه السلة معك إلى البيت فهي هدية ملكية مني لك أيها الوزير المخلص هارباخ!”
تمالك الوزير نفسه عندما رأى ما في السلة، وقال للملك دون أن يظهر ضعفُ أبٍ عليه في هكذا موقف: “إنني ممتنُ لجلالتكم على هذه الوليمة الفاخرة وهذه الهدية الثمينة، وأنا دائماً سأكون في خدمتكم وفياً ومنفّذاً لأوامركم.” ثم حمل السلة وذهب ليدفن صامتاً بقايا جسد ولده في حديقة داره، والدموع في عينيه.
سأل الملك السحرة من حوله، ما عليه أن يفعله بحفيده الذي لم يُقتَل وعاد إليه بعد كل تلك السنوات، فقال له كبيرهم: “لا تخف أيها الملك العظيم! لقد صار حفيدك ملكاً على أولاد الرعاة أثناء لعبهم، ولا يصبح المرء ملكاً مرتين، فقد انتهى أمره ولا خوف منه.” فاقتنع آستياخ بجوابه، وأضاف السحرة قائلين: “أيها الملك، هذا الأمر هام بالنسبة لنا أيضاً، فإن صار الحكم بيد حفيدك هذا فإنه سيصبح ملكاً فارسياً لأن أباه (قه مبيز) من الفرس، الذين سيسودون علينا نحن الميديين الذين نسود عليهم وسيؤذوننا في عقر دارنا.”
أرسل الملك حفيده ليعيش معه أمه التي انتقلت إلى بلاد فارس حيث زوجها (قه مبيز)، ونشر أباه وأمه الإشاعة عن ولدهما بين الأتباع والناس بأنه تربّى لدى كلبةٍ تدعى (كه ينو)، ولم يتطرقا إلى قصة اختفائه الحقيقية مطلقاً.
تحدّت الوزير هارباخ فيما بعد سراَ مع أقرب أصدقائه ومعارفه حول ما فعل الملك بولده، وقرر العمل مع الأيام ضد الملك حتى ولو كلّفه ذلك حياته، في حين كان (كه ي روس) يترعرع في كنف أبيه وأمه بعيداً عن آكباتانا عاصمة الميديين، فاتفق الوزير مع أسياد ميديا الأساسيين الذين اشمأزت نفوسهم من تصرّف ملكهم على نقل السلطة إلى (كه ي روس)، وأرسل له رسالةً في جوف أرنب مع أحد أتباع المخلصين الموثوقين، شارحاً له الحقيقة حول ما جرى للأمير (كه ي روس) وما فعله الملك بولده من جريمةٍ وحشيةٍ لا تغتفر، وطلب الوزير من حامل الرسالة أن يسلمّ الرسالة إلى (كه ي روس) عندما يكون لوحده. وجاء في رسالته: “يا ابن قمبيز! الآلهة تحبك وإلاّ ما كان بالإمكان أن تعيش وتنجو من ذلك القدر، فانتقم من جدك آستياخ الذي أراد قتلك. الآلهة وأنا أنقذناك. كان عليك أن تعلم بأنني قد دفعت جزاءً كبيراً لإنقاذ حياتك، بأن سلمتك إلى راعٍ عوضاً عن قتلك كما أمر الملك آستياخ. فلو تتبع نصيحتي يكون تاج آستياخ على رأسك وتصبح ملكاً. اجمع قواك واقنع الفرس بإسقاط آستياخ وحرب الميديين الذين يناصرونه، فستكون ميديا ملكاً لك، وحبذا لو جعلني آستياخ أو جعل نبيلاً آخر من الميديين قائداً لجيشه، فسنكون أوّل الخارجين عليه وننضّم إليك.”
صدّق الأمير (كه ي روس) ما كتبه له الوزير هارباخ وراح يجمع العشائر الفارسية الأساسية خلفه، وهي: Pazargard, Maraphie, Maspie, Panthlalai, Derusiai, Germanie . أما بازارغاد فهي الأصل الذي جاء منه الأخمينيون، في حين أن الجرماني ليسوا إلاّ عشائر الكرميان (Germiyan) الكوردية، وكانت كلها عشائر مستوطنة تعمل في فلاحة الأرض وزراعتها، في حين أنه ألّف حلفاً من آخر مع العشائر الرحل، ومنها: Dae. Mard, Dropik, Sagartie,
طلب (كه ي روس) الذي يعرف باسم (خسرو) من شعبه أن يفلحوا جميعاً في يومٍ واحد أرضاً واسعة كانت تنبت فيها الأشواك ومليئة بالحجارة، وعندما انتهى الشعب من ذلك، طلب من الجميع أن يتحمموا ويلبسوا أجمل الحلل والثياب لديهم ويتزيّنوا، ويأتوا معهم بالخبز والخمور، وأقام احتفالاً ضخماً في ذلك السهل الواسع، ذبحت هناك الخراف وتم شويها وتوزيعها على الناس، وقام المغنون والراقصون بتقديم ما لديهم من فنون وعزفٍ ورقصات، ثم طلع (خسرو) على شعبه وسأل: “أي اليومين تجدونه ممتعاً لكم، البارحة أم اليوم؟” فعلت الأصوات من كل السهل بأن هذا اليوم أفضل من البارحة بالتأكيد. فقال للفرس: ” أيها المحاربون الفرس! إن اتبعتموني حصلتم على ما حصلتم عليه اليوم، أما إذا نكستم على أعقابكم فستبقون كالعبيد تحت أيادي الميديين، فاتبعوني تكونوا أحراراً، لقد قدّر إلهي أن أحيا لأقودكم إلى الحرية، فاخرجوا معي على آستياخ.”
ويعقّب المؤرخ اليوناني هيرودوت على هذا الحدث الجليل، فيقول: “الآن صار للفرس قائد يقودهم، وراحوا يزعزعون بفرحٍ في ظله نير الظلم ويرمونه عنهم، الآن تحوّل الميديون السادة إلى أتباع للفرس، وتحوّل الفرس الأتباع إلى أسياد للميديين…” وهذا ما جرى فعلاً لقرونٍ طويلةٍ من الزمن.
هاجم الفرس على عاصمة الميديين آكباتانا تحت أمرة ملكهم (خسرو) والميديون المتذمرون من سلطان آستياخ تحت قيادة وزيره المتمرّد هارباخ، وألقي القبض على آستياخ ورمي به في الزنزانة، وانتهى في عام 550 ق.م عمر الدولة الميدية، إلاّ أنّ أسياد الميديين قد لعبوا دوراً هاماً في كافة المجالات في الدولة الفارسية زمناً طويلاً، بل أثّروا بعمق في اللغة والثقافة والتقاليد والمظاهر والعمران في حياة الفرس، وظلّوا أهم العناصر المحاربة في الدولة دون شك.
(لمزيدٍ من التفاصيل/ أنظر: تاريخ هيرودوت)
انتهى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى