آراء

كردستان بين نقطة الشروع والإستفتاء

كفاح محمود كريم

لا أريد أن أغوص في تفاصيل التاريخ ودهاليزه البيضاء أو السوداء خشية من أبالسة السياسيين العنصريين والمتشددين الدينيين الذين يقبعون دوما في التفاصيل، بقدر ما أريد الإشارة إلى نقاط الشروع لحركة الاستقلال الكردستاني منذ بدايات القرن الماضي وحتى الاستفتاء الأخير في 25 سبتمبر الماضي، وبلورة ديناميات جديدة من خلال قراءة دقيقة لتلك الصفحات من التاريخ وخاصة طبيعة تعامل كلُ من حكم العراق مع القضية الكردية.
لقد قاد الشيخ عبد السلام البارزاني 1909-1914م انتفاضة شعبية في كردستان العراق كأول حركة تحررية في القرن العشرين تمتلك أهدافا سياسية واضحة، نجحت في إيصالها إلى الحكومة العثمانية، التي جن جنونها فشنت حملة عسكرية واسعة على مناطق نفوذ الحركة في بارزان واعتقلت الشيخ عبد السلام ورفاقه، ثم أعدمتهم في مركز ولاية الموصل بداية 1914م.
لم تنطفئ جذوة الثورة بل استمرت حتى وقعت المنطقة بأسرها تحت طائلة اتفاق وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا ( سايكس بيكو ) لتأسيس كيانات تخدم مصالحها فقط، فظهرت للوجود في هذه المنطقة مملكة عراقية من ولايتين هما البصرة وبغداد، وحينها كانت ولاية الموصل تضم كل كردستان الجنوبية المسماة اليوم كردستان العراق، وبعد مفاوضات عديدة بين الأطراف الأربعة البريطانيين والفرنسيين والأتراك والكرد اتفقوا مع الكرد على أول استفتاء بشأن تبعية الموصل، بعد أن وعدوهم بتحقيق مطالبهم وأهدافهم السياسية والثقافية إذا ما صوتوا إلى جانب انضمام الولاية إلى المملكة الجديدة، وبذلك منح الكرد وهم الغالبية هوية العراق لولاية الموصل، وهنا يقول ادمونس في كتابه عرب وكرد وترك ” لقد قدم شعب كردستان خدمة كبيرة في تأسيس دولة العراق وذلك بأصوات الأغلبية الكردية في ولاية الموصل”.
ولكن الطرف الآخر وهو المملكة العراقية وعرابها البريطاني وضع الخطوات الأولى للانقلاب على كل العهود والوعود حتى أصبحت سلوكيات متوارثة حتى يومنا هذا من قبل كل من حكم العراق، ولعل ما كتبه ملك العراق الأول لرئيس وزراء بريطانيا، يؤشر لذلك الانقلاب حيث طلب منه مساعدته لبسط السيطرة على كل ( المناطق الشمالية ) ويعني بها كردستان العراق، فأجابه  رئيس حكومة بريطانيا العظمى حينها:
” إننا اتفقنا معكم بإنشاء مملكة تكون حدودها من البصرة وحتى جبال حمرين، يكون الكرد فيها شركاء حقيقيون، ولم نعدكم بإنشاء إمبراطورية من البصرة إلى زاخو! “
فما أشبه اليوم بالبارحة وطلبات رئيس حكومة العراق الحالي ببسط سلطاته على كل الإقليم ولكن هذه المرة بمساعدة الإيرانيين بدلا من البريطانيين في الأمس.
بعد انقلاب 1958م وإعلان الجمهورية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، عاد مصطفى البارزاني إلى بغداد على خلفية إن العهد الجديد سيضع حلولا جذرية للمسألة الكردية، باعتماد دستور جديد يقر بالشراكة بين العرب والكرد، وان العراق يتكون من قوميتين رئيسيتين العربية والكورية، لكن للأسف لم تمض إلا سنوات قليلة جدا حتى انقلبوا على تلك الشراكة، واستبدلوها بسياسة الاختراق والاحتواء والحل العسكري، لتبدأ حقبة جديدة من التهميش والإقصاء والاضطهاد، تسببت في اندلاع ثورة أيلول 1961م في كردستان العراق بقيادة البارزاني مصطفى، والتي تمخضت بعد سنوات عن اتفاقية11آذار1970م بين العراق وحركة التحرر الكردستانية، التي اعترفت لأول مرة بحق الكردستانيين بالحكم الذاتي سياسيا وثقافيا واقتصاديا، وبعد أربع سنوات تجريبية ذهبت حكومة بغداد إلى فرض قانون من طرف واحد للحكم الذاتي على طريقة السوفييت بقيادة حزب البعث وأجهزته الأمنية والاستخبارية، مما حدا بقيادة الحركة الكردية إلى رفض ذلك القانون، وأصرت بغداد على رفض أي حوار خارجه وخارج شروطه، مما أشعل الحرب بين الطرفين، والتي انتهت بعد عام واحد لصالح بغداد وذلك بضغوطات كبيرة من قبل الولايات المتحدة وإيران لصالح بغداد في حينها!
بعد هذه الحقبة بدأت مرحلة اعتماد بغداد على سياسة تمزيق البيت الكردستاني وفتح ثغرات في جدرانه الداخلية، حيث استخدمت كل الحكومات العراقية بدون استثناء سياسة صناعة جيوب أو ثغرات في هذا الجدار، من خلال استمالة وإغراء أشخاص على خلفية صراعات قبلية أو سياسية مع قادة حركة التحرر الكردستانية، وتنظيمها على شكل أحزاب أو تشكيلات ميليشية عرفت في كردستان بـ (الجته) أي عملاء العدو، وقد نظمت لهم الحكومة المركزية أفواجا كميليشيات تأتمر بأمر شيخ القبيلة وتساق من قبل ضباط الاستخبارات أو الأمن الحكوميين، وكانت تسمى في حينها بالأفواج الخفيفة ويطلق عليها الأهالي بالجحوش.

حكم شيوعي

هذا في الجانب العسكري، أما في الجانب السياسي فقد استنسخ نظام البعث أسلوبا كانت أجهزة المخابرات الأوربية الشرقية في حقبة الحكم الشيوعي تستخدمه في تزيين ديمقراطياتها الشعبية  بأحزاب للزينة فقط، حيث تم تأسيس أحزاب كردستانية في دوائر المخابرات العراقية على أنها تمثل طموحات شعب كردستان، وهي ذاتها معتمدة حتى الآن في تصديع البيت الكردستاني من قبل بغداد وطهران واذرعهما في الداخل الكردستاني، كما حصل في اجتياح كركوك.
ورغم كل هذه المحاولات لتفتيت الجبهة الداخلية وإدامة الحرب لم ترفض كردستان أي محاولة للسلام ولبناء دولة الشراكة الحقيقية ودولة المواطنة، ولأجل ذلك ذهبت قيادتها إلى بغداد وهي تمشي على مئات الآلاف من ضحايا الأنفال وحلبجة لكي تفاوض صدام حسين بعد انتفاضة الربيع، كما تخلت عن كل امتيازاتها التي وفرتها الأمم المتحدة ومجلس أمنها في الملاذ الأمن عام 1991م، وذهبت إلى بغداد بعد أيام من إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، لكي تؤسس مع الشركاء الآخرين دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتنشأ دولة مواطنة تحت سقف دستور كتبناه جميعا، لكن الأمور اختلفت حينما أصبحوا في السلطة فأرسلوا دباباتهم عام 2008 مهددين كردستان بالاجتياح من خلال قوات أعدت مسبقا وأطلق عليها اسم قوات شرق دجلة بالقرب من كركوك، وبذلك انهار فعليا تحالف الطبقة السياسية الشيعية مع التحالف الكردستاني  في 2008م.
لقد استمر الصراع بين هذه الطبقة الحاكمة وبين إقليم كردستان بشكل غير معلن، ومن خلال سياسة التهميش والإقصاء والتلكوء في تطبيق الدستور، وخاصة فيما يتعلق بالمجلس الاتحادي وهو الجزء الأهم في البرلمان العراقي الذي يطمئن مكونات العراق الأخرى على مستقبلها وشراكتها، كم عملت تلك الطبقة الحاكمة على منع تطبيق المادة 140 والمواد التي تخص توزيع الثروات وخاصة قانون النفط والغاز، حتى وصلت الأمور إلى قطع حصة الإقليم من الموازنة العامة والبالغة 17بالمئة وقطع مرتبات الموظفين وفرض حصار اقتصادي غايته إيقاف تطور الإقليم وإشاعة الفوضى فيه، خاصة وان لجان التحقيق البرلمانية في سقوط الموصل بيد تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية داعش، اتهمت رأس كتلة دولة القانون وهي المهيمنة على مقدرات السلطة العسكرية والأمنية والاقتصادية في العراق بمسؤولية سقوط الموصل بيد داعش لتكون خنجر في خاصرة كردستان.
من هنا بدأ الإقليم يشعر بخطر المستقبل خاصة وان الطبقة السياسية الشيعية مرتبطة تماما مع إيران التي لا تؤمن إطلاقا بأي خطوة لتطور الإقليم السياسي، وسارع قادة الإقليم إلى تحذير بغداد بتجاوزاتها على الدستور وضرورة الإسراع بحل الإشكاليات المتراكمة من خلال زيارات متعاقبة لبغداد، لكن للأسف كانت المؤامرة اكبر والهدف تدمير الإقليم وإلغائه بالكامل، وهذا ما أكدته الأحداث المتعاقبة خاصة رفض بغداد أي حوار حول مستقبل الموصل بعد التحرير، علما بان قيادة الإقليم تحادثت مع بغداد الحكومة والأحزاب بأنها تشعر بخطر ما يحصل وإنها ربما تذهب إلى الشارع الكردستاني في إشارة إلى الاستفتاء، وقد حصل ذلك قبل تحرير الموصل بفترة ليست قصيرة، ورغم ذلك كانت تلك الطبقة قد طبخت برنامجا غير معلن لما سموه (إقليم شمال العراق) أو(محافظات شمال العراق) كما تستخدمه الآن وسائل إعلامهم، مما دفع الإقليم إلى إجراء الاستفتاء تحت مضلة القانون والدستور في التعبير عن الرأي.
لقد أثبتت الطبقة السياسية الحاكمة بشقيها الرئيسي الشيعي والملحق السني بأنها ضد الفيدرالية بتقاطع صارخ مع الدستور، وإنها بإلغاء إقليم كردستان ستعيد النظام الشمولي تحت يافطة الأغلبية السياسية التي تهيمن عليها الطبقة السياسية الشيعية المسيرة بالكامل من إيران، مع إكسسوارات سنية وكردية على غرار أحزاب الزينة، وبذلك تتحقق أهداف ولاية الفقيه تدريجيا وباستخدام آليات الديمقراطية بعد إلغاء أي محاولة لمعارضة تلك الولاية.

تأسيس دولة

واليوم وبعد استنساخ حكومة بغداد لكل أساليب وسلوكيات الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن الماضي وحتى إعلان الحرب على الإقليم واجتياح كركوك وبقية المناطق المستقطعة أساسا من كردستان بسياسة التعريب والتغيير الديموغرافي خلال أكثر من نصف قرن، وخرق أهم مواد الدستور التي تحرم استخدام القوات المسلحة في النزاعات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم أو المحافظات، وفرض الحصار الكلي على شعب الإقليم من خلال الاستعانة بالدول الأجنبية ( إيران وتركيا وغيرهما ) لغلق الحدود ومنع دخول المواد الغذائية أو التجارية ومنع شركات الطيران من الهبوط في مطارات الإقليم، وإيقاف حركة السياحة من العراق إلى الإقليم، إضافة إلى إيقاف تعامل البنك المركزي العراقي مع المصارف الكردستانية أو العاملة في الإقليم، كل ذلك يأت في سياق حرب إبادة جماعية واضحة جدا لإلغاء الإقليم وتحطيم إرادة شعب من ستة ملايين نسمة، منح من اجل حريته مئات الآلاف من الشهداء، وحقق خلال اقل من ربع قرن من السلام وعشرات المليارات من الأموال ما عجزت عن تحقيقه كل الحكومات العراقية خلال قرن من الزمان ومئات المليارات من الأموال.

 إن مجمل هذه الأوضاع والتداعيات الإقليمية والدولية اليوم تضع الإقليم بين خيارين صعبين في الظروف الحالية وهما؛

الأول: القبول بدولة المواطنة في العراق وهذا يبدو صعبا للغاية إن لم يكن مستحيلا بعد مئة عام من حكم مختلف التيارات السياسية، وتحت هيمنة الأحزاب الدينية والمذهبية أو القومية، والثاني: خيار إنشاء الدولة الكردستانية الذي يخضع هو الآخر إلى عاملين أساسيين أولهما اقتصادي سياسي وثانيهما دولي وإقليمي تحديدا دول الجوار ذات العلاقة وهي تركيا وإيران وسوريا.

العامل الأول:

في الجانب الإنمائي والاقتصادي، لم تنجح حكومات الإقليم منذ 2003 في إنشاء بنية تحتية تخدم مصالح الأمن القومي للدولة القادمة فيما يتعلق بالأمن الغذائي حد الاكتفاء ( زراعة وصناعة وطاقة )، وانشغلت في بناء مجمعات سكنية وتجارية خدماتية غير مكتملة خاصة فيما يتعلق بالكهرباء والطرق والمواصلات والصحة والتعليم، وهذا ما شهدنا  نتائجه في الآونة الأخيرة، كما لم تنجح بتطوير إمكانيات البترول وخاصة البتر وكيميائيات والصناعات الغذائية والإنشائية والأدوية قياسا مع تعاظم مواردها منذ 2003م، وفي الجانب السياسي ورغم ما حققه الإقليم من انجاز حكومات ائتلافية، إلا انه بقى أسير النزاعات والتنافسات الحزبية، ولم ينجح في بناء جدار سياسي اجتماعي عسكري متين يحمي مصالح الإقليم العليا، حيث تصدع ذلك الجدار في أول تحدي له كما حصل في تسليم كركوك.

 العامل الثاني:

رغم النجاحات الملموسة المتحققة في العلاقات مع تركيا بدرجة كبيرة وإيران بدرجة اقل وسوريا بدرجة شبه معدومة، إلا أنها كشفت بعد إجراء الاستفتاء نواقص كثيرة، ونقاط خلل عديدة في خصوصية العلاقات ومدياتها مع الحكومات، دونما العمل على بناء علاقات أخرى مع مكونات سياسية فاعلة ومؤثرة وضاغطة في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الدول.
وفي الجانب الاقتصادي والاستثماري سواء مع تركيا أو إيران لم تصل تلك العلاقات والمشاريع والمصالح بين الإقليم وكل من تركيا وإيران إلى درجة أن تخشى حكومتيهما على تلك المصالح أو المشاريع، لكون معظمها لم تكن مشاريعا إستراتيجية تؤثر أو تضغط سياسيا، حيث نافسا الحكومة العراقية في معاداتهما للإقليم ومشروعه في الاستفتاء، وعلى هذا القياس ممكن مراجعة ذات العلاقات مع أكثر الحلفاء قربا وهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي وكندا واستراليا، والمجموعة العربية والإسلامية.

تحمل مسؤولية

ولكي لا نحصر أسباب ما جرى من تداعيات في جانب واحد أو مجموعة واحدة، فان العديد من المؤسسات ساهمت كل حسب موقعها ومجال عملها بما حدث، وإنها تتحمل المسؤولية أيضا ابتداءً من ممثليات الإقليم الحكومية والحزبية في الخارج، وانتهاءً بالإعلام الكردي الذي لم ينجح تماما في إيصال القضية الكردية بشكل مقنع على الأقل لدول الجوار، بينما نجح قرار السياسيين في الاستفتاء بتعريف العالم برمته بقضية الاستقلال، ولذلك نرى هذا الإصرار العجيب على إلغاء نتائج الاستفتاء، التي لا يمكن لأي سلطة داخلية أو خارجية إلغائه إلا باستفتاء آخر يلغي أو يثبت نتائج الأول، وعليه ستبقى نتائجه وثيقة رسمية وتاريخية يعتمد عليها في أي محاولة أخرى للاستقلال في المستقبل.
لقد ذهب الاسكتلنديون إلى الاستفتاء وكذلك شعب كاتالونيا وربما شعوب أخرى في أوربا أو غيرها، والفرق بيننا وبينهم، إن شركائنا في الدولة جيشوا الجيوش وصنعوا مئات الخونة وحرقوا  مئات البيوت وقتلوا المئات من المعارضين، ويلاحقون اليوم كل الذين شاركوا بالاستفتاء في كركوك والمناطق التي اجتاحوها، ففصلوا المئات منهم وسجنوا اعدادا كثيرة من منتسبي وزارة الداخلية، وفي البرلمان الديمقراطي طردوا ومنعوا كل من شارك في الاستفتاء من البرلمانيين الكردستانيين، بينما ذهب رئيس وزراء بريطانيا ونخبته الحاكمة إلى الاسكتلنديين راجين منهم إعادة النظر في استفتائهم مقابل الموافقة على مطالبهم بل وإغرائهم بامتيازات أخرى للبقاء في المملكة العتيدة.
إن ما حدث بعد إجراء الاستفتاء في كردستان من ردود أفعال وحملات عسكرية وتهديدات من العراق أو دول الجوار، أيقظ شعورا كاد أن يضعف أو يخف، وهو إن لا خيار للعيش المشترك في كيان واحد مع هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية، فبعد أن كان الاستقلال مجرد حلم لنائم، أصبح اليوم تحدي كبير لدى شعب حيوي ويقظ أيقن إن شركائه في الأرض بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية لا يقبلونه إلا تابعا، ولا يقبل هو إلا أن يكون حرا أبيا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى