آراء

كردستان… درس التاريخ وفرصة المستقبل

د. محمد حبش

من حيث لمبدأ لا أستطيع كرجل يؤمن بالحرية إلا أن أقف بوضوح مع آمال الشعب الكردي في قيام كردستان على الأرض التاريخية لهذا الشعب المجيد التي باتت تتوزع بين إيران وأذربيجان وتركيا والعراق وسوريا، وهذا الكيان السابح في نيروز الكرد ونشيدهم وحدائهم وفرحهم وآمالهم أولى وأحق بالوجود من دول أوجدتها الصدفة التاريخية كما هو الحال في بلاد مثل جيبوتي ولوكسمبورغ ولينخشتاين وقطر والبحرين، وفي العالم كثير من هذه الصور من الدول المستقلة التي لا تملك التاريخ ولا المستقبل، ولكنها على كل حال أخذت مكانها في العالم الجديد وباتت جزءاً من الأسرة الدولية .

ومع أنني مؤمن بدولة المواطنة التي تتشارك فيها القوميات والديانات واللغات في سياق واحد من المواطنة وحقوق الإنسان، ولكن منطقتنا أبعد ما تكون من الوصول إلى هذه الغايات النبيلة، والمؤسف أن هذا الإخفاق لا يعود فقط للاستبداد الذي تمارسه الديكتاتوريات الطاحنة، بل إنه صار للأسف جزءاً من ثقافاتنا المتهالكة، فعلى الرغم من زوال حكم صدام حسين منذ عشرين عاماً ولكن المجتمع العراقي لا زال غير قادر على صناعة المواطنة بعد أن انتقل من الاستبداد السياسي إلى الاستبداد المذهبي، ووقع بالكامل تحت تأثير العمائم والعشائر والإيديولوجيا، والحال في سوريا ليس افضل من ذلك فقد استيقظت لعنات الطائفية بشكل متوحش، ومن المؤلم الاعتراف بان الانقسام المجتمعي بات أخطر وأشد إيلاماً من التشظي السياسي.

لقد دخل الكرد الدولة الحديثة مبتسمين مبتهجين، ولم يكن الحلم الكردي يعني أكثر من الاستقلال والعيش الكريم، وقناعتي أن حكماءهم لم يكونوا يعتقدون أننا بحاجة إلى كيان سياسي منفصل بقدر ما نحتاج إلى الكرامة والعيش النبيل في وطن نتشارك فيه الحياة الكريمة مع أبناء الوطن، وتنجز فيه حقوق الإنسان.

ولكن الصدمة كانت أن دولة المواطنة الموعودة لم تأت أبداً، وأن الكرد وقعوا في حصار مثلث بين القومية الفارسية في إيران والقومية العربية في العراق وسوريا والطورانية التركية، وبات عليهم أن يناضلوا في كل محفل لإثبات أنهم أبناء هذه الأرض وملحها وترابها، وهكذا عاش الكرد مائة عام من الأسى والقهر، منعوا فيه من لغتهم وتراثهم وأغانيهم وشاهدوا فيه زعماءهم على أعواد المشانق، ورأوا فيه عشرات الآلاف لا يملكون وثيقة هوية ولا جواز سفر، ولا يعترف لهم بحق ولا حقوق حتى يؤدوا الولاء والطاعة للمستبد الذي قد ينظر إليهم بعين عطف فيمنحهم بعض حقوقهم مناً ومكرمة!! وقد ينشغل عنهم فتغيب هذه الحقوق عقوداً مديدة.

وصار كل كردي تمسك بأرضه ولغته وتراثه متهماً في ولائه الوطني، يعاقب بالتجهيل والتجاهل والمتاركة فيما منحت بعض المناصب السياسية والحكومية لأولئك الذين وافقوا على التخلي عن الثقافة الكردية واللغة الكردية والهم القومي الكردي، ووافقوا على المصطلح البعثي بأن من تكلم العربية صار عربياً، وهو تعريف محير لا وجود له في الأبستمولوجيا الديموغرافية، يرفضه الواقع والنسب والدم والثقافة، وظل الكردي مسكوناً بثقافته وكرديته على الرغم من قفص الوهم الذي زخرفه له أصحاب المشروع القومي العربي.

ولم يشأ قانون الحكومات السورية المتعاقبة أن يعترف للكرد بالحقوق الثقافية المشروعة ولم يأذن حكم البعث منذ خمسين سنة بافتتاح مدرسة كردية واحدة رغم أن البلد فيها مدارس روسية وايرانية وفرنسية وصينية، وحتى عيد النيروز الذي يفرح به نصف الشعب السوري على أقل تقدير لأسباب اجتماعية وتاريخية متعددة لم يشأ البعث أن يعترف به عيداً لجزء من السوريين، وحين اشتد الغضب الكردي من هذا النكران تم ابتكار فكرة احتيالية وتم الإعلان عن عطلة عيد الأم وهو ما يصادف عيد النيروز في إرادة واضحة لعدم الاعتراف بالفرح الكردي والعيد الكردي، وهي ممارسة كيدية سخيفة غايتها منع شعور هذا الشعب النبيل بالحرية والفرح والبهجة.

ولعل أخطر ما نواجهه اليوم هو اشتداد الخطاب الانفعالي كرديا وعربيا خلال الأشهر الأخيرة، والمساجلات الغاضبة التي تملأ صخب وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ينذر بمزيد من الشقاق والخراب.

وأمام هذا التحريض المستمر على وجوب التخلي عن كل ثقافة أو تراث غير عربي وجد الكردي نفسه في اللامكان، حيث لا يمكنه أن يتوازن في محيط دولة تدعوه بكل الوسائل إلى الانسلاخ من مشروعه القومي، وتراثه التاريخي وثقافته ولغته، ولكن ليس في إطار دولة عدالة وقانون تقوم على القيم الديمقراطية، وتحقق المساواة بين الناس بغض النظر عن قومياتهم وإنما في اطار شوفيني آخر لا يمكنه حتى من الحقوق الثقافية المشروعة لأي شعب يعتقد انه غنى للتاريخ وأغناه ومنح العالم نشيده وفرحه.

وكتب على الكرد الذين تمسكوا بأرضهم ومزارعهم أن يكونوا خارج قطار التنمية تماما، وبات النظام نفسه يقدم هذه المحافظات بالمحافظات النامية تعليميا، وهو تعبير ملطف لجملة المحافظات المتخلفة، مع أنها أرض القطن والقمح والنفط والغاز السوري.

بالطبع فإن هذه السلوكيات المنحازة قادت الى نكران من نوع آخر فهناك كتلة كبيرة من مثقفي الكرد باتوا يمارسون الريبة نفسها في كل شأن عربي ويعتبرون العرب حالة احتلال لأرضهم التاريخية وثقافتهم ولغتهم وبدأ تيار واثب يهاجم كل ما هو عربي وإسلامي بوصفه سوط قهر مبسوط فوق جبين الكرد وأنهم لن يجدوا آفاق المستقبل إلا حين يصرخون في وجه العرب والإسلام، نحن مختلفون ولم نكن يوما من الأيام جزءا من حضارتكم ولا نريد أن نكون كذلك.

ولا يخطئ المراقب اليوم رؤية تيار عريض من الكرد يتأسس على مناهضة الحضارة العربية والإسلامية، ويبحث هؤلاء عن جذور عتيقة للكرد لا صلة لها بالإسلام ويلتمسونها في الزرداشنتية والإزيدية والكاكائية وغيرها من التصورات الدينية، مع أن صلة الكرد بهذه الثقافات

الروحانية لا تعدل في شيء ارتباطهم وارتباط آبائهم وأجددهم بقيم الإسلام العليا ودورهم التاريخي في بناء الحضارة الإسلامية.

وقبل الحديث عن المشاركة السياسية للكرد، والدول التي قامت على أرضهم وجبالهم، فقد قدمت دراسة عن أهم أعلام الكرد في التاريخ الإسلامي، وهي محض ومضات سريعة، فقد كان ابن الصلاح الشهرزوري أول اسم من علماء الكرد المشهورين في الثقافة الإسلامية، ويمكن القول إن ابن الصلاح هو أبرز علماء مصطلح الحديث، وقد اعتبرت خياراته في علم الحديث صيغ الإجماع التي يتلقاها عنه العلماء في كل مراحل التاريخ.

الاخوة الأئمة الثلاثة الامام مجد الدين والامام ضياء الدين والامام أبو الحسن بن الأثير الجزري، أبناء جزيرة ابن عمر وبوطان، وقد قدموا للحضارة الإسلامية مكتبة هائلة من إبداعهم تنتصب اليوم في كل مكتبة ومدرسة وبيت علم، ولا يمكن لبحث علمي في الثقافة الإسلامية أن يتجاوز جامع الأصول والنهاية في غريب الحديث والأثر وأسد الغابة والكامل في التاريخ التي قدمها هؤلاء الأعلام الكرد الثلاثة، وقد قدمتهم الحضارة الإسلامية وزراء محترمين في الدولة الأيوبية تركوا بصماتهم حاضرة في التاريخ الإسلامي.

وكما فعل سبيويه الفارسي وابن سينا الأوزبكي والفارابي الكازاخي والفيروزابادي الفارسي وجمال الدين الأفغاني، فإن الأعلام الكرد قدموا تراثهم بالعربية وخلدوه حباً بالإسلام والرسول والرسالة ولكنهم كانوا يعودون في العشي إلى بيوتهم وجيرانهم فيغنون بالكردية ويرقصون في النيروز دون أن يروا في العروبة أو الإسلام عدواً لآمالهم القومية والعائلية.

لقد أسهموا في دول إسلامية كثيرة، ولو رحت تبحث في طبائع هذه الدول التي ساهم فيها الكرد لرأيت أنها الدول التي احترمت تاريخهم وحضارتهم وكرامتهم، ومن الواقعي تماماً أن نشير إلى الدولة الأيوبية التي كانت أوضح صورة لدور الكرد في العالم الإسلامي،

فقد: قامت هذه الدولة بدور تاريخي جبار في مواجهة أطماع أوربا الصليبية واستطاعت دحرهم في بيت المقدس بقيادة الزعيم الكردي الهائل صلاح الدين يوسف بن أيوب.

لم يطرح صلاح الدين ولا أي من أولاده أن تكون الدولة الأيوبية دولة كردية، ولكنهم في الوقت نفسه لم يقبلوا أن يسرقها شعب آخر، لقد كانت يقظة في هذا الشرق الإسلامي وكانت وطناً عابراً للحزبية القومية، وكانت روح العدالة والانتصار كافية لري كل النوازع الوطنية المشروعة.

ومن المؤسف ان تكون بلاد الشام في القرن الثاني عشر الميلادي تنعم بدولة عابرة للقوميات وقائمة على تشارك أبناء الأرض بموارد الدولة ومسؤولياتها، ثم نرتد بعد ثمانية قرون إلى الدولة القومية الشوفينية المتعصبة التي تفرض على الناس لساناً واحداً وتاريخاً واحدا، ويتوالى رئيس جمهوريتها ووزير أوقافها في أسبوع واحد لنفي كل ثقافة أو قومية تعيش في الوطن، وإنكارها وجحودها واتهامها إلا ما كان تماماً على نسق حزب البعث العربي الإشتراكي!

أما الدول التي قامت تاريخياً في مناطق الكرد فهي كثيرة ومنها الدولة الحسنية البرزيكانية والدولة الشدادية والدولة الدوستكية المروانية والدولة العنازية والدولة الأردولانية والسورانية والبهدينانية والباباوية، وهي فيدراليات كانت تقوم في كنف الخلافة، في أراضي كردستان التاريخية، تمشي على حبال تقاطع المصالح بين البويهيين والسلاجقة والخوارزميين والعثمانيين، وتكرر المشهد ذاته، تزداد المظالم فيطالب الكرد بالاستقلال، ثم تتحسن المواقف فيرضون بالفيدرالية، وهو مشهد طبع التاريخ الكردي كله بطابع المشاركة العملية في كل نشاط سياسي تاريخي في أرض كردستان.

لن يكون في قدرة هذه المقالة سرد تاريخ الكرد ورجالهم وأبطالهم في التاريخ الإسلامي، ولكنها دعوة للحكمة والبصيرة، وتقديم نموذج مختلف عن الأنظمة الشوفينية المستبدة التي حكمت المنطقة بروح قومية متعصبة خلال مائة عام.

كل ما تريده هذه المقالة أن تشير للمشروع الوطني الجديد الذي يقوده ويشارك فيه عرب وكرد، ويغني فيه أبناؤه بالعربية والكردية والسريانية والآشورية، ويواجهون عدواً واحداً هو الاستبداد والتوحش، سواء ظهر على صورة بسطار عسكري او عمامة دينية.

إنهم بالفعل بعد ثمان سنوات من المسؤولية المباشرة باتوا أمام استحقاق تاريخي كبير، ولديهم فرصة من ذهب لتقديم نموذج مختلف، فالكرد الذين عانوا في التاريخ من تهميشهم وظلمهم لصالح برامج قومية عنصرية مدعوون اليوم أن يقدموا بديلاً مختلفاً من الوعي، ويؤسسوا لجتمع مدني حقيقي تحكمه العدالة وتسود فيه حقوق الإنسان، ولا يشعر مقيم فيه بغربة ولا حاكم فيه بسطوة، لا فضل فيه لعربي على كردي ولا لكردي على عربي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 283

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى