آراء

كـردستان العراق: مـن المؤامرة ….إلـى منصب الـرئيس

عبدالرحمن كلو

أحياناً تواجهنا قضايا خلافية معقدة تحمل عناويناً بسيطة لا تعبر عن مضامين حيثياتها الحقيقية، تبدو وكأنها تتمحور في مسألة محددة الأهداف، لكن من خلال استعراض تعقيدات سياقاتها كظاهرة تاريخية نكتشف أننا نحتاج إلى جهد كبير وشاق لأنها تحمل في ذاتها أكثر من خلاف وأن المسائل الخلافية المعلنة ليست هي الحقيقية، لذا نحتاج إلى منهج استقرائي تفكيكي لعناصر القضية ومن ثم منهج بنائي وظيفي يقوم بربط هذه العناصر وتسمية وظائفها وبعدها نعتمد التأويل والشرح للوصول الى الوظائف الحقيقية لهذه العناصر مع الحرص على عدم المساس بثوابت الجانب المعرفي لها.
بعد سقوط النظام الفاشي في العراق وانهيار منظومته الأمنية والعسكرية، وبعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا وبدء ما كانت تسمى بثورات الربيع العربي في سوريا، وما رافقت هذه الأحداث من متغيرات راديكالية عمت الشرق الأوسط برمته على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الصراعات و الاصطفافات حيث دخل على خطوط التماس العامل الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والحرب على الإرهاب التي بدأت من أفغانستان منذ عام 2001، إذ بدت الأمور وسيرورة الأحداث وكأن التغيير جاء بنيوياً شمل الحالة المجتمعية والسلطوية لشعوب ودول المنطقة من كافة الجوانب، لكن حقيقة الأمر لم تكن كذلك أبداً، فالمنطقة التي رزحت تحت وطأة وثقل موروث ثقافي شمولي قرنا كاملاً من الزمن كان من الصعوبة بمكان الاستجابة التزامنية للبنى الفوقية بمفاهيمها الثقافية والسياسية لتسارع متغيرات المؤسسات العسكرية والأمنية لدى الأنظمة والأوساط الحاكمة في زمن قياسي، إذ بقيت الثقافة المجتمعية أسيرة لنمطية الموروث التراكمي لعقيدة الاستبداد والقهر والتسلط، كما أن الأنظمة التي عمدت على أن تتكيف مع مستجدات التغيير وبدلت في الكثير من أدوات عملها و سلوكياتها لم تتخل عن أيقونات ثوابتها السياسية التقليدية، حيث انتعش المشروع الشيعي العقائدي بقيادة إيرانية وتمدد في كل الاتجاهات.
وحاول أردوغان الانتقال والتمدد في فضاءات الإمبراطورية العثمانية من خلال تمثله لدور الإسلام الوسطي، كما حاول الكرد في جنوب كردستان بقيادة البارزاني استثمار اللحظة التاريخية والدخول في شراكة فعلية للمشروع الأمريكي المتمثل بالشرق الأوسط الكبير والدفع بمشروع التحرر القومي الكردي نحو الاستقلال الوطني للإقليم، ومع أن التناحرات والصراعات أخذت صيغاً وأشكالاً جديدة انهارت معها محددات سايكس- بيكو الجيوسياسية، إلا أن الذهنية السياسية التقليدية للأنظمة الجديدة والقديمة للدول التي تقاسمت كردستان بخصوص تناولها للمسألة الكردية لم تتغير وبقيت كما هي، فهذه الأنظمة وعلى الرغم من تغيير قواعد اللعبة السياسية في الشرق الأوسط – بعد تدخل العامل الدولي- أبقت على ذهنياتها الأمنية المؤامراتية للقضية الكردية، فعوضاً عن الاجتماعات الأمنية الدورية للدول الأربع حول المسألة الكردية و” مخاطرها ” على أمن هذه الدول اتجهت نحو العمل من الداخل الكردي عبر القنوات الحزبية الموالية لها إذ قامت بالتجييش غير المعلن عبر هذه القنوات ضد مشروع إعلان الدولة الكردية من خلال تحالفات حزبية موالية لهذه الدول مستغلة مناخات تاريخية الخلافات الحزبية التقليدية وبعض القيادات المرتبطة عقائديا مع إيران وتركيا، وبالرغم من الجهد الحثيث من الرئيس بارزاني في ترتيب البيت الكردي من الداخل وإيلاء الأولوية لوحدة الموقف السياسي للأحزاب الكردستانية، إلا أن هذه الأحزاب لم تتوانى عن العمل والاجتهاد مع هاتين الدولتين ضد مشروع إعلان الدولة في جنوب كردستان، لذلك عمدت على التدخل في شؤون كردستان سوريا على حساب المشروع القومي الكردي لتحجيم الزخم الجيوسياسي لمشروع البارزاني، لكنها أبقت على العلاقات فيما بينها وبين الرئيس بارزاني على أن تأخذ طابعاً دبلوماسيا تسودها المجاملات السياسية في إطار توافق مبدأي على الشراكة في إدارة الإقليم على قاعدة المصالح الحزبية الآنية للاستحواذ على بعض الامتيازات الإدارية والمالية، هذا مع الاحتفاظ بعلاقاتها مع شركاء العملية السياسية في بغداد من التيارات الشيعية والسنية الحليفة لإيران وتركيا، لكن هذا الهدوء في العلاقات الترميمية ذات الطابع التوازني لم يدم طويلاً، فبعد النمو الاقتصادي المضطرد للإقليم وإنشائه قاعدة علاقات قوية ومتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
عمل البارزاني عبر هذه العلاقات على توفير الشروط المناسبة لإعلان الدولة والاستقلال عن العراق للنأي بالإقليم عن الصراعات الطائفية في العراق العربي، إذ استطاع خلال سنوات قليلة أن يجلب إلى الإقليم ممثليات أكثر من ثلاثين دولة أوربية وأسيوية إضافة إلى القنصلية الأمريكية (وفي الأيام الأخيرة تم افتتاح ممثلية الاتحاد الأوربي) بالإضافة إلى تسهيل عمل استثمارات رؤوس الأموال التركية والغربية حتى جعل من كردستان العراق جزءاً حيوياً للأمن القومي والمصالح الاقتصادية لهذه الدول في الشرق الأوسط، وفي الجانب المجتمعي بات الإقليم يمتلك صورة ناصعة عن نموذج ديمقراطي تتعايش فيه مختلف المكونات القومية والدينية والطائفية وخاصة بعد أحداث احتلال الموصل وسهول نينوى من قبل تنظيم داعش الإرهابي، مما جعل من الإقليم الأنموذج لدولة ديمقراطية واعدة في الشرق الأوسط، ولتكون بمثابة الحزام الأمني للقارة الأوربية لخلوها من حاضنات تفريخ الإرهاب وتصديره، وعليه أصبح الإقليم قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال، مما دفع بإيران ومن خلال حكومة المالكي وتفاهمات تركية-إيرانية أن تعلن الحرب الشاملة عليه وإنهاء التجربة برمتها ونسفها من خلال تنظيم داعش في صيف عام 2014 عندما هاجم الإقليم على جبهة قدرت طولها بأكثر من 700 كم من جنوب كركوك حتى شنكال وبأحدث الأسلحة النوعية والثقيلة سلمت للتنظيم أبان تسليم الموصل، لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن في أي وقت في غفلة من أمرها بكل ما يحدث في العراق والشرق الأوسط تدخلت في اليوم الثاني من الهجوم عبر طيرانها الحربي وأعلنت أن أمن أربيل هو من إحدى ثوابت الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط وأنها خط أحمر، مما اضطر خصوم إعلان الدولة لتغيير قواعد اللعبة وبدأت الحرب على مشروع الدولة بالصيغة البديلة مع توقيت نهاية الفترة القانونية لمنصب رئاسة الإقليم من خلال شخص الرئيس بارزاني وصلاحياته للنيل من عناصر القوة لديه وكبح جماح مشروعه الوطني، وهكذا أخذ الصراع عنواناً آخر وهو عدم مشروعية التمديد لمنصب الرئاسة، أو بعبارات أخرى: المعركة الحالية على منصب الرئاسة ما هي إلا العنوان الشكلي المعلن للمعركة التاريخية ضد مشروع التحرر الوطني الكردستاني، لكن الجديد في الأمر هو التذكير بأن الثابت الممانع يصطدم اليوم بالحليف المتغير وحلفاء اليوم ليسوا كما حلفاء الأمس وعلى الجميع أن يعيد حساباته على قاعدة المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى