آراء

كلمات عن الدولة القمعية

محمد زكي أوسي

سبق وتناولتُ في مقالةٍ (الدولة الوطنية والديمقراطية) والآن : ماذا عن الدولة القمعية؟ الدولة القمعية دولةٌ تتحكّم بها فئةٌ (عشيرة – قبيلة – طائفة – طبقة – حزب..) وهي لا تحقّق مصالح عامة الناس, بل تحقّق مصالح مَن تحكم باسمهم أو جزء متميز منهم لسببٍ ما.

وطبيعيٌ أّلا يمكن للقمع أو الإرهاب المنفلت أن يظلّ سائداً إلا إذا ساندته سلطة استبدادية ؛ تهيمن على المجتمع كله ، لتحمي الجلّادين العاملين لمصلحتها, ولكي تُسكِتَ أصوات المحتجّين على القمع, تزيّنه على أنه ضرورةٌ لا بدَّ منها, ومثال هذه السلطة,:سلطة السلاح, العصابة أو العشيرة أو الطائفة أو الدين أو الدولة.

والعنف المطلق من عقاله ، لا يستمرّ إلا إذا كانت الدولة ضعيفة, أو إذا كانت الدولة ذاتها ترعى هذا العنف و الإرهاب وتنمّيه خدمةً لمصالحها, كما أنه يكون من المستلزمات الأساسية لاستمرارها, ومن الطبيعي أن يميل الناس إلى رفضها والاعتراض عليها. فبتقدم العصر وتغير العلاقات, وزوال تشكيلة العصابات المتفرّدة بالآخرين وظهور التجمع الذي أخذ اسم (الدولة), وكذلك حين تعجز الفئة القمعية الحاكمة عن تحقيق مصالح الجماهير لأنّ هذه المصالح تتناقض مع طبيعة الدولة القمعية ووظيفتها, فإنّ الحكم يمنع الناس من إعلان شكاويهم أو إيصال مطالبهم بالتعبير السياسي المعروف بوساطة الأحزاب والمنظمات والنقابات, وحتى بالتعبير الثقافي, أي أنّ الحكم يقمع حتى الثقافة والفنون والآداب التي تحمل هموم الناس, بل تحاول تدجينها ومن هنا ظهرت فئة مُجمّلي قبح المستبدّين بأقلامهم وغير ذلك, وكذلك يضبط ويقمع التنظيمات المهنية والسياسية وحتى المواعظ الدينية, وعندها تزداد نقمة الناس, فتزداد مخاوف السلطة, مما يؤدّي إلي تشديد قبضتها بالإرهاب والسجون والتعذيب والقتل و التسريح من العمل والتجويع ومنع التنظيمات وخنق حرية التعبير, في محاولةٍ منها إجبار الناس على القبول بالأمر الواقع والتأقلم معه والسكوت عنه, ولأنّ السلطة تعلم أنّه لا يمكن اختزال الناس بهذه الطريقة اختزالاً نهائياً, فإنها توسّع دائرة المستفيدين من فتاتها وتحوّلهم إلى جلّادين، أصحاب مصلحةٍ في حماية النظام القمعي, إنهم يتحوّلون إلى وسائل قمعٍ، يمارسون الدناءة باندفاعٍ دفاعاً عن مصالحهم, التي تتمثّل في أنهم بمنأىً عن طغيان الدولة, وأنهم يأخذون حقوق غيرهم عنوةً, ويعرفون أنّ أصحاب الحقوق هذه ينتظرون الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم و استرداد حقوقهم المغتصبة، لذلك يشعر هؤلاء العملاء بأنهم معرّضون في كلّ لحظةٍ لفقدان الامتيازات التي لا يمتلكون مؤهلات فعلها لنيلها، وحتى لو امتلكوا مثل هذه المؤهلات ؛فإنّ طبيعة الدولة القمعية التي يتعاملون معها, ومن المفترض أنهم يعرفونها جيداً – تجعلهم يعيشون في خوفٍ وقلقٍ دائمين نظراً لتبدّل أمزجة الحكّام أو فقدان الرضى وحلول النقمة, هذا إضافةً إلى الحكّام أنفسهم ،الخائفين من انقلاب الناس عليهم ، لعدم ارتكازهم على قاعدةٍ شعبية حقيقية ، ولإحساسهم بحجم الهوّة العميقة بينهم وبين الشعب, ولذلك تراهم جبابرة ومملّقين في آن واحد, والدولة القمعية تبحث عن هؤلاء وتنمّيهم وتعتمد عليهم, يقول الكواكبي: (إنَّ المستبدّ لا يحبّ أن يرى وجه عالمٍ أذكى, فإذا اضطرّ لمثل الطبيب والمهندس يختار المتصاغر المتملّق).

أما عامة الناس فتعيش حالة الخوف والذعر الدائم ،والذي يجبرهم بالتظاهر في حبّ الدولة, وتُظهِر الدولة ذاتها أنها تصدّقهم ، وهذا بحدّ ذاته منّية على المواطن والمثقف معاً ، فهو لم يسجن بعد ومازال يتقاضى راتباً, إنه الحبّ الذي يذكّرنا بإعلان بطل رواية (1984) للكاتب جورج أورويل في سيرته, حبّه للطاغية. وتفسير الكواكبي فيه طرافةٌ حيث يقول: (المستبدّ إنسانٌ, والإنسان أكثر ما يألف الغنم والطلاب, فالمستبدّ يودّ أن تكون رعيّته كالغنم ذلاً وطاعةً, وكالكلاب تذللاً وتملقاً). ولكنه يصبح أكثر تدقيقاً حينما يقول: (الاستبداد صفةٌ للحكومة المطلقة العنان, التي تتصرّف في شؤون الرعيّة ،كما تشاء بلا خشية حسابٍ أو عقابٍ محققين).

ومنشأ الاستبداد إمّا من كون الحكومة تتجاوز على القانون وإرداد الأمة في تصرفها, وهذه حالة الحكومات المطلقة, وإمّا من كونها مقيدة بنوعٍ من ذلك, ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تشاء ، وهذه حالة الحكومات العقائدية, وعن العنف السلطوي يقول إدمون بلان : (إنّ أخطر انحراف تُبتلى به الدولة الاستبدادية يقوم على اعتقادها بأنّ وجودها يستنفذ جميع التحقيقات الممكنة, وبعبارةٍ أخرى فإنها تستخلص اعتباطاً ضرورة سلطتها الخاصة من الحاجة إلى سلطةٍ سياسية.

والمقصود أنّ الدولة العميقة تعمل على إشاعة مفاهيمٍ تتلخّص في أنه لولا السلطة القمعية, لكان المواطنون أقلّ أمناً وأكثر جوعاً وتعرّضاً للعدوان, وأكثر خضوعاً للعدو, وفضلاً عن ذلك تجد هذه السلطة نفسها مؤتمَنة على البلد وارادة الشعب ومصيره, وترى أنّ كلّ معارضٍ هو خائن, ويجب أن يفوز برنامجها السياسي بتأييدٍ مطلق وكلّ نقدٍ هو مساسٌ بأمن الدولة ورأسها، وأنّ هيمنتها يجب أن تشمل جميع الفعاليات ،وكلّ تنظيمٍ مستقل خصمٌ لها, لذا تتعمّد السلطة القمعية إلى الإكراه والقسر بالقوة ، وتوسع الجهاز البوليسي والعسكري, وتمارس رقابة لصيقة دقيقة، وتحتكر الإعلام وتسخّر الثقافة لتعظيم النظام ، وتعزّز العسف والعناد و تلاحق الأحرار وتمنع تماسك المجتمع ، وتتمسّك بعقيدة متصلّبة تمنعها من التجديد, وتمهّد أحاديثها المطلقة لظهور العنف وتشجّع عبادة الفرد وغطرسة قيادات التنظيمات المتسلّطة ويقف وراء هذا المستفيدون من فتات مثل هذه السلطة الاستبدادية, لذلك يبرّرون قيامها بوجود حالاتٍ مماثلة في دول أخرى, هذا الأمر يشتدّ كلما تضاءل المجهود الحقيقي الرامي لإعادة النظام والتنمية, تُرى ألا يفسّر هذا كلّه الاستمرار المدهش لهذه الأنظمة؟ يقول ميشيل فوكو: (الطاغية الغبي قد يضطهد العبيد وتقهيرهم مستخدماً السلاسل الحديدية, ولكنّ السياسي الحقيقي الماهر يستطيع أن يقيّدهم بسلاسل أقوى من سلاسل الحديد بواسطة أفكارهم هم أنفسهم, وهو يستمدّ قوته من أننا لا نعرف المادة التي صُنع منها).

ولهذه الأنظمة تسمياتٌ عديدة (الاستبدادية – القمعية – الديكتاتورية – الفاشية) وكلها تشير إلى حقيقةٍ مفادها أنها لا تمثّل شعوبها, بل مفروضة بقوة السلاح أو الاحتلال أو الوصاية الخارجية, ومهما كانت شعاراتها فإنّ المحكومين من قبلها تتردّى إنسانيتهم, وتضمحلّ مطامحهم, وتنغلق آفاقهم, وينحدرون نحو الحيوانية في ذات الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات حول المجدوالسؤدد والكرامة والحرية.

المقال من جريدة يكيتي عدد 289

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى