آراء

كي لا تكون صفراء

برزان شيخموس

قال المفكر الايرلندي إدموند بروك: “ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف  البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منهم جميعاً”, هي هكذا إذ تحتل مرتبة عُليا لدى العالم أجمع كونها تمثّل صوتهم وتُعدُّ منفذاً لنقل معاناتهم وأداة لفضح الانتهاكات بحقّهم, كما يجدونها الرقيب العتيد على متنفّذي السلطة وحكامها، لذا نعتوها بالرابعة كونها هي الأقوى إن سُخِّرت في مكانها الطبيعي.
لكنها ولأهون سبب قد تفقد مصداقيتها وتهوي من عرشها إن لم يصنها القائمون عليها بالعمل الجاد وضمن أخلاقيات المهنة بعيداً عن أوهام الشهرة والنجومية، أو زجّها في خانة كسب الرزق دون الإمعان في مسببات خلقِها وحتمية وجودها أو الانجرار إلى بلاط السلطات كشعراء لا اعلاميين يشحذون بأقلامهم صحف صفراء أكل عليها الزمان وشرب.
للمهنة أخلاقيات رفيعة بذل الكثير من الشرفاء حياتهم ثمناً للكلمة الحرة, أو لإيصال صوت المظلومين من تحت أنقاض وأوزار الظلم والطغيان أو قرباناً لصورة قد تغيّر مجرى التاريخ, هي هكذا نعم, صوت الأحرار وصوت الصدّيقين, فلزامٌ على روّادها وممتهنيها الحفاظ عليها أو تركها لأصحابها الحقيقيّين كي لا تكون صفراء.
الصحافة الصفراء هذا المصطلح يعود في أساسه إلى مصطلح آخر هو (الكتب الصفراء) وقد كان يُقصد به تلك الكتب القديمة عديمة النفع والقيمة، واصفرّت أوراقها وتقادمت معلوماتها، ولم تعد ذات صلة بالحاضر, ويُعيذ البعض معنى الصفار إلى (داء في البطن يصفّر الوجه. واصفرَّ .. افتقر وصُفرت وطابه: مات) كما أعازها البعض لتكون مجازاً يفيد القدح والذم. وهكذا فهي صحافة تفتقر إلى الصدقية، والدقة، وتميل إلى التهويل والمبالغة، وتعتمد على الإشاعات أو الأخبار الكاذبة أو المحرّفة أو المصنوعة ! وهذا يفقدها ثقة القارئ بها، ويجعلها أوراقاً صفراء، لا يطمئنّ لها أحد ولا يكترث بما فيها أحد, وهي تنطبق على جميع الوسائل كما الصحف بِما فيها المسموعة والمرئية والالكترونية.
للصحافة أخلاقيات عالية وهي مهنة متعبة تحتاج دوماً إلى البحث والتمحيص, كما يجدر بممارسها التّحلي بالمصداقية والثقافة العالية والاطّلاع الواسع كي يكون ذو بصيرة قادرة على إظهار الحقيقة كما أن الصحفي وحسب المنظور العام يحتاج الى الجرأة والشجاعة – الصفة الأهم –  كونها الوحيدة القادرة على إظهار الحقيقة بعيداً عن الخوف والانزواء في زوايا لا تمدّ للمعاناة الحقيقية بصلة والالتهاء بقضايا هامشية لا تؤثر على مجرى الأحداث وبعيدة عن المعاناة الحقيقية.
تكمن مهمة الصحافة الحرة والمهنية في مجالات عدة, اجتماعية تربوية تعليمية من شأنها أن تقلل من حدة الفوارق الثقافية بين فئات المجتمع المختلفة، وإن تحدث تجانسًا فكريًا بواسطة ما تقدمه من مواد إخبارية وغير إخبارية, الى جانب تحقيق وظيفتها الإخبارية، التي تختصّ بإمداد القراء بالأخبار، والتي يشترط أن يحصل عليها كمادة إخبارية صرفة، لا يجوز التحريف فيها أو التغبير، الأمر الّذي يستلزم احترام قدسية الخبر.
إلّا أنّنا وللأسف لم نشهد أو نلمس أي تغيير حقيقي في أغلب وسائل الاعلام على الصعيد الكردي أو السوري بشكل عام بعد أربع سنوات من الفسحة الممنوحة, بل بقيت معظمها انطوائية منكمشة على نفسها, متخندقة  لم تستطع الرّقي بنفسها الى مصاف الاعلام الحقيقي, فالمعظم  متخندق لجهات بحدّ ذاتها سياسية أو تمويلية, الى جانب ظهور ميكافيلية من نوع جديد, تستخدم من قبل مؤسسات إعلامية وإعلاميّين بغية الحفاظ على بقائهم دون ابداء أي احترام لرسالتهم في ظل سلطات الأمر الواقع المصطنعة بإشكال جديدة, وتحولهم إلى أبواق تسبح بحمدها.
قد ترى بعض الوسائل أهداف أخرى لعملها لكن يظل للإعلام الحقيقي هدف واحد هو اظهار الحقيقة خاصة في البلدان التي تدار فيها حروب ومعارك تنتهك فيها أعراض الأبرياء وتّسبى عفّتها, قد يختلف المنظور ما بين الأجواء الديمقراطية في بلدان متطورة فكرياً لكن في بلدان العراك تَسمى الصحافة على نفسها وتصبح ذات تأثير سواءً نحو الايجاب أو نحو الانحدار الأخلاقي, وفي حال تعمقها في انحدارها الاخلاقي بلا شك تكون دكتاتورية وقوى ظلامية لا فرق بينها وبين أي مستبد يجزّ رقاب البشر, في دموية بحتة عبر أوراق وأثير وشاشات ملطخة بالدماء.
هنا تقع المسؤولية على المؤسسة الإعلامية قبل الإعلامي فهي تستطيع تحديد أهدافها وترتيب أولويّاتها, وبذلك تجد لنفسها المكان المناسب سواءً في المكان الطبيعي أو نحو الانحدار الأخلاقي بغية غاية تراها أحقّ من أخلاقيات المهنة, أما الاعلامي بمقدوره وحده تحديد أهدافه ومبتغاه كما المؤسسة المرتبط بها فبيده الرسن وبإمكانه تسييره حسب أهوائه لكن مع علمه بأنه هو من سيدفع الضريبة عاجلاً أم آجلاً كونه هو من اختار لون صحيفته.
قدسيتها هي المبتغى وأخلاقيّاتُها هو المنشود، ليس للظهور بمثالية قد يراها البعض بعيدة عن الواقعية، لكن تظلُّ هي الضمان الوحيد للرّقي نحو الأفضل والأحسن والأجدر وبذلك تكون طوق النجاة لكل من رءاها أهم من الجالسين تحت سقف البرلمان, لتستحق لقبها وكي لا تكون صفراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى