
كُردستان… موطن الكبرياء والدموع
أمل حسن
ما أعظم صلابة أمةٍ تتشبّث بالحياة رغم كلّ شيء! ذلك هو الشعب الكُردي، الذي وُلد من رحم الحرمان، بلا وطن يحتضنه، ولا اعترافٍ بكيانه أو لغته. شعبٌ لم يعرف يومًا الهدوء، لكنه لم يعرف الانكسار أيضًا. فتح عينيه على عالَمٍ مليء بالخصوم، هدفهم اقتلاع جذوره، وطمس ملامحه. ومع ذلك، لم ينحنِ، بل صدح في وجه هذا العالم: أنا كُردي… أنا باقٍ
تقاسمت قوى الطغيان أرضه إلى أربعة أوطان، وفرضت عليه لغات لا تشبهه، وثقافات تسعى لطمس هويته من الوجود. لم تكن الحرب على اللغة فقط، بل على الذاكرة، والكرامة، والحق في الحياة. وسال الدم الكُردي في كل زاوية من أرضه، حتى أصبحت كُردستان مرادفًا للشهادة، للأنفال، للقصف، للخراب. جرّب الأعداء كل وسائل البطش: من التهجير الجماعي إلى الإعدامات، من التدمير الشامل إلى محو التاريخ. لم يسلم من ظلمهم حجر ولا بشر، لا نهر ولا شجر، حتى التربة صرخت من فرط الألم. ورغم ذلك، ظل الكُرد واقفين، يعتنقون الجبال كما يعتنقون الحلم، ويكتبون تاريخهم بدمٍ لا يجفّ.
وسط هذا الطوفان من العنف والدمار، ظل الشعب الكُردي وفياً لإنسانيته. رحمته كانت أبلغ من جراحه، وتسامحه أشد صلابة من محنه. لم يتخلَّ عن حلم السلام، رغم أنّ العالم خذله مرارًا. آمن بالحرية إيمانًا مقدّسًا، وغنّى لها كما تُغنّى الروح لحريّتها، ونسج من ألم الواقع أملًا يليق بأمة لا تعرف الانكسار.
لم تكن مقاومته انتقامًا، بل كانت دفاعًا عن الكرامة، عن الحق في الحياة، عن العدالة التي وُئدت أمام أعين البشرية. حمل مقاتلوه سلاحهم لا للقتل، بل لحماية الإنسان من وحشية الإرهاب، وللدفاع عن الأرض التي لا تعرف الطغاة طريقًا لها.
عقودٌ من المآسي لم تُخمد نار عزيمتهم، بل زادتهم إصرارًا. قاتلوا الظلم بالعلم، وبنوا أجيالاً من أبناء الشمس، دخلوا جامعات العالم وأثبتوا جدارتهم في كل ميدان. لم يُغْلَق أمامهم باب إلا وطرقوه، ولم تُمنع عنهم لغة إلا وأحيوها من رماد المنع. فكانوا – رغم الحرمان – من أنبغ شعوب الأرض وأكثرها وفاءً لهويتها.
واليوم، لا يزالون يقاومون. لم تَشْفِ الحروب جراحهم، بل فتحت جروحًا جديدة. وبعد الثورة السورية، أُجبر الآلاف على الهروب مجددًا، بين الصحارى والمحيطات، بين الخوف والجوع. لكنهم لم يحملوا معهم سوى عزةٍ لا تنكسر، وعلمٍ لا ينكس، وهويةٍ لا تُنسى.
وبين نيران اللجوء وأمواج الشتات، واصل الكُرد كتابة فصولهم. لم ينسوا من هم، ولم يتنازلوا عن كُردستانهم. حملوها في حقائب السفر، وفي ملامح أبنائهم، وفي أناشيدهم ولهجاتهم. قاوموا النسيان كما قاوموا البنادق.
أي شعبٍ هذا الذي يصمد بهذا النقاء؟!
أي أمٍّ على وجه الأرض تزغرد بين الدموع مودّعة أبناءها الشهداء بكل هذا الكبرياء؟!
أي عظمة تسكن شعبًا دفن أبناءه تحت الركام، ثم زرع الحلم فوق قبورهم، وانطلق من جديد؟!
كُردستان، رغم الجراح، قادمة.
قادمة لا بعواطفٍ منكسرة، بل بإرادةٍ صلبة، وبأملٍ لا يُقهَر.
قادمة بجبالها التي تنطق بالتاريخ، بسهولها التي ارتوت بالدم الطاهر، وبشعبها الذي أقسم أن لا يركع إلا لله.
نعم، ستنهض كُردستان من رماد القهر، تنفض عن نفسها غبار الألم، وتُعلن ولادتها من جديد.
كُردستان… موطن التضحية والكرامة، موطن الذاكرة الحية والإنسانية الراسخة.
كُردستان… التي لا تموت، لأنها في قلوب أبنائها، وفي لغتهم، وفي مقاومتهم.
تنادي: أنا كُردستان… أنا الحياة حين ترفض الموت… أنا الحرية حين يُخنق صوتها… أنا الوجود حين يُنكر.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “332”