آراء

لماذا لا تنضب منابع الطغاة في شرقنا (الجزء الثاني)

د. محمود عباس
عند دراسة مراحل تاريخ الإمبراطورية الإسلامية ودولها، ينصدم الباحث بفظاعة الحروب والصراعات الدموية المتتالية، على خلفية غايات، منها:
– بصفة الحفاظ على الرسالة أو نشرها، والتي ساندت ورجحت سيطرة ثقافة الإسلام العنفي، والمسمى جدلا بالإسلام السياسي، وفي الواقع، الإسلام بكليته هو الدين الذي ظهر لتسيير أمور الأمة وإنشاء الدولة المدنية مع تنقية إنسانها روحيا، والطريقة تكون بالسيطرتين الثقافية والسياسية، والتحكم بمفاصلهما، على بنية القوة والسلام، العنف والمحبة معا.
– وحروب جرت ولا تزال مستمرة لنشر وفرض مذاهب حديثة، بنيت على تأويلات فقهية تتلاءم وسيادة الطاغية، أو لخلافات قومية حملت على أعتاب الإسلام.
وفي كل الحالات طغت نزعة السيطرة عن طريق استخدام العنف، وبقي التعتيم على الفكر الحر سائداً في معظم مراحل التاريخ الإسلامي، والتي شوهت ثقافة الدين المتوازنة، وسهلت للمغرضين ولبعض الأئمة، بخبث أو لجهالة، تشويه الإسلام الشمولي الإلهي، وفرضوا مكانها الإسلام الراديكالي الإنساني، إسلام أنصاف الألهة. ومن المعروف إن الطغي عن طريق الشر والعنف أسهل بكثير من السيادة بالمحبة والخير والسلام.
سادت هذه الثقافة بكل مفاهيمها على العالم الإسلامي، وطغت على معظم ثقافات الشعوب التي اعتنقت الإسلام، فقضت مع مرور القرون على الثقافة الذاتية، ولم يبقى من ثقافة القوميات إلا فتاته، ومن ثقافة الحضارات القديمة إلا الجوانب التي تساند العنف والشر، أما معظم المفاهيم الأخرى بقيت في طي النظريات بدون فعل. مهدت دمج الثقافات المتلائمة عنفيا في خلق بيئة مناسبة لنمو الفكر السادي ونزعة التكالب على السلطة واستخدام الدكتاتورية في تسيير أمور الأمة، فكانت البيئة المناسبة للشرائح الانتهازية والمنافقة لمساندة حكومات لتحولها إلى سلطات شمولية وليتخرج على بنيتها دكتاتوريات متتالية لا نضوب لها، فتمسك بها كل من تكالب على السلطة، ونشروها لتثبيت أركان سلطانهم، وتبنى معظم قادتها مقولة الحجاج ابن يوسف الثقفي (أريد ألسنتهم لا قلوبهم). باستثناء قلة من الأئمة الذين لم تغب عنهم الإسلام الشامل بأبعاده، الإسلام الإلهي، الرابط بين الإنسان وربه بدون وسيط، وهم الذين تمكنوا في قليله الهروب من سيطرة طغاة جعلوا من ذاتهم الذات الإلهية على الأرض.
لا شك أن طغيان تلك الثقافة على العالم الإسلامي، راكمت التربة الخصبة لنمو الطغاة بدون انقطاع، فكلما زال دكتاتور نبت مكانه آخر، فمن الصعب ضمن هذه البيئة الثقافية البحث عن عوامل نضوب منابعهم، لأن الثقافة السائدة تعتبر العامل الأول للظهور المتتالي للسلطات الشمولية والدكتاتوريات المتنوعة. فنوعيتها ومناهجها المرتبطة بالدين، الإلهي شكلاً، والإنسان المتآله فعلاً، خلقت بشكل متواصل الحواجز أمام النقد لدحضها، ووقفت بعنف عند مواجهتها أو محاولة تغييرها، ولم تكن محاولات القدريين الأوائل سوى ثورات شبه صوفية عن طريق علم الكلام لإسقاط منطق الإسلام العنفي الذي اسند بمفاهيم الجبريين منذ بدايات دخول الإسلام إلى عالم الدولة، لكنها فشلت تحت طغيان الإسلام العنفي والذين استخدموا كل بشائع الشر في مواجهتهم. فالثورات الجارية في الشرق اصطدمت بمواجهات عنيفة، مشابه لما جرى في بدايات الإسلام، من التيارات الراديكالية الإسلامية والأبشع من السلطات الشمولية. والجاري في الشرق تعكس الخلفية الثقافية التي يجب أن تزال للحد من ظهور مماثل للدكتاتوريات المراد إزالتهم، ففي الظروف الثقافية التي تعيشها شعوب الشرق لن يكون القادم بأفضل من المزال، وقد يكون الإطار مختلفا، من طغيان تحت مفاهيم الراديكالية القومية والغطاء الوطني المتشربة ثقافة الإسلام العنفي ومفاهيم الشر، إلى إطار الراديكالية الدينية الغارقة في ثقافة الشر ومفاهيم الإسلام السياسي في جزئه العنفي وبعدمية إسلام الخير والسلام.
ولا شك الديكتاتوريات المتتالية كانت لها أشكال متنوعة لكنها جميعا تحمل نهج العنف والشر وإلغاء الأخر، وينبتون من التربة الثقافية الطاغية على جغرافية العالم الإسلامي، لهذا فالثورات الجارية لا بد وستطول أمد مسيرتها وصراعها مع الثقافة السائدة قبل أن يكون موجها لإسقاط السلطات الشمولية وتغيير مفاهيم التيارات الإسلامية العنفية الراديكالية المتنوعة، لأن الثورات انبثقت لزوال الأنظمة، وتعني التغيير في الثقافة العنفية الدينية المسيطرة، ثقافة الجبريين، ومعها ثقافة العنصريين المختفية تحت عباءة الوطن، أو التي وجدت لذاتها شكلاً أخر وهي في ذاتها مستسقاة من منابع المحرفين للإسلام المتوازن، الإسلام الذي لم يتعدى كماليته السنوات الأولى من الرسالة ولم تخرج بعدها من ضمن صفحات النص القرأني، وسيتبعها تغييرا في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتي جميعها بنيت على تلك الثقافة العنفية.
المسيرة طويلة، ولا يمكن لأحد أن يحدد الانتصار بسيطرة المجموعات الإسلامية الانتهازية أو المذهبيين المتطرفين على السلطة بمساندة تجار الحروب أو المنافقين باسم الثورات، فتغيير ثقافة بنيت على مدى قرون تحتاج إلى سنوات وربما عقود لبلوغ الغاية. لا شك، أن الأنانية الفردية تدفع بالإنسان لرؤية النتائج في حينه وإلا فالثورات في مفاهيمهم تعتبر فاشلة أو أنه لا توجد ثورات. وإجمالا فالبشرية كلما تطورت فيها مدارك الإنسان قل فيه نزعة الشر والعنف، واتجه إلى حيث السلام والتعامل بأساليب الخير الديني أو العلماني أو التوافق بينهما، والثورات التي تجتاح الشرق عبرت عن هذا في انطلاقاتها الأولى حيث المسيرات السلمية والتي تواجهها الثقافة العنفية للحفاظ على ذاتها.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@hmail.com
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(26) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى