لنرحّبْ بدولة كردستان

عمـر قـدور
نحو ثلاثة أشهر يُفترض أنها تفصلنا عن موعد الاستفتاء الذي دعت إليه رئاسة إقليم كردستان العراق لتقرير الانفصال النهائي عن العراق. نتيجة الاستفتاء متوقعة بغالبية ساحقة إلى جانب الانفصال. والإقليم بدأ عملياً رحلة الانفصال عن الواقع العراقي وصراعاته منذ إعلان الحظر الجوي على طيران صدام حسين بداية التسعينات، ومن ثم تكريس الحكم الذاتي دستورياً إثر إسقاط نظام البعث.
لم ينخرط الإقليم في الصراعات الدموية التي سادت عقب إسقاط صدام، البعض نظر إلى هذا السلوك كنوع من الانتهازية السياسية، والبعض الآخر رأى فيه الأكثر حكمة على الساحة. لكن ما لا يجب تجاهله وجود ميل قوي لدى الأكراد منذ ذلك الحين نحو طي صفحة التشابك مع الجار العربي، وقد نشأ جيلان على ردود الفعل تلك التي تملك مبرراتها من خلال صراع طويل ومستمر مع الحكم المركزي.
استقلال الإقليم أمر واقع بالفعل، والاستفتاء تتويج لمسار طويل ومتقلب. هذه الخلاصة قد تدفع بعض الغيورين على وحدة العراق إلى التساؤل عن سبب الاستفتاء على ما هو مكرّس، من دون تقدير لما يعنيه ذلك معنوياً على الضد من تلك الغيرة التي يحملونها. ولا شك في أن الغيرة تطاول على درجات أولئك المتحمسين لبقاء خريطة المنطقة على ما هي، والخائفين من أن يؤدي انفصال كردستان إلى تفتيت أوطان أخرى لأسباب إثنية أو طائفية. لا غرابة بالطبع في أن تصدر أقوى التخوفات عن قوميين عرب، لا لعدائهم لتطلعات القوميات الأخرى فحسب، وإنما لأنهم بدأوا بتصغير طموحاتهم على قدِّ أقطارهم بعد أن بات وجودها مهدداً.
لعل أسوأ ما في العامل الأخير الاعتقاد بأن تقدّم الأكراد يأتي حتماً على حساب تراجع العرب وهزيمتهم، يعززه الاعتقاد بأن تقدمهم لم يكن ليأتي لولا الدعم الخارجي المضاد أصلاً للتطلعات العربية. هذه النظرة، وهي شائعة لدى العرب والأكراد، تعكس عمق العداء ولا توحي باقترابهما من مصالحة تاريخية يقتضيها تقاسم الجغرافيا بعد فشل التاريخ في تحقيقها.
سيعتاد العرب لاحقاً على وجود كردستان، لقد اعتادوا من قبل على وجود إسرائيل بمستوطنيها، وببنية طبقتها السياسية التي هيمن عليها يهود الغرب حين كان تأثير الغرب على مجتمعاتنا متدنياً. تشبيه كردستان بإسرائيل قد يحلو لغلاة القوميين العرب، عطفاً على ما يحتويه من استحضار لعدم الأحقية المسنود بتواطؤ دولي، وهو لم يعد يزعج أكراداً لا يملكون الحساسية ذاتها إزاء إسرائيل، أو يرون تراجع الحساسية العربية إزاءها مع الوقت. لكن لا بأس في أن يُستحضر هذا التشبيه خارج الأخلاقيات المتباينة المتعلقة بطرفيه، وأن يُنظر إليه من باب تغلّب الواقعية السياسية أخيراً على شعارات لم تكن في أحسن أحوالها إلا تعبيراً عن العجز.
أما من الجهة المقابلة، فليس جديداً القول إن نسبة غالبة من الأكراد رأت في نظام البعث والأنظمة التركية والإيرانية المتعاقبة إسرائيلها، ورأت في ذلك الاستهتار المعمم بحقوق الأكراد نوعاً قليل التشذيب من الأبارتيد.
فوق ما في الواقعية السياسية من تسليم، ثمة ديْن مستحق يقتضي عدم معاداة دولة كردستان القادمة. فأكراد العراق خاضوا منذ استقلال العراق كفاحاً طويلاً بمختلف السبل، وكانوا لوقت مديد متواصل الأكثر تصميماً على انتزاع حق تقرير مصيرهم. هذه المثابرة تستحق الاحترام، ووقائع الماضي تدحض فكرة المؤامرة، فإقليم كردستان الذي احتضن معارضين عراقيين من مختلف الانتماءات كان قادته حريصين على عدم استخدامهم كورقة من قبل قوى خارجية، ولم يدخلوا في تحالفات داخلية أو إقليمية شائنة على النحو الذي فعله حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري منذ بدء الثورة، أو على النحو الذي فعلته قوى عراقية أخرى ساهمت وتساهم في تمزيق المجتمع العراقي.
الدَين المستحق يتعلق أيضاً بتاريخ من النظر إلى الأكراد كشعب (أو شعوب) من الدرجة الثانية، حيث لم يبلغ التعاطف إلا في ما ندر حد الإقرار بأهليتهم وأحقيتهم بتقرير مصيرهم. هناك «لكن» شهيرة كان يُستدرك بها كلما أتى الحديث على حقوق الأكراد، هذه الـ «لكن» الشهيرة تبدأ بالتشكيك في امتلاكها مقومات الشعوب الأخرى، مروراً بالإقرار بامتلاك الأكراد خصائص ثقافية خاصة إنما من دون أحقيتهم بالبناء عليها سياسياً، لتصل إلى الإقرار بحقوقهم القومية من دون أن يعني ذلك الإقرار لهم بحق تقرير المصير. «لكن» الشهيرة تلك تغيّب التحفظ الأخلاقي الوحيد الذي ينبغي توجيهه للأكراد وسواهم، متمثلاً بالخشية الدائمة من تحول المظلوم إلى ظالم، ومن أن تتحرك المظلومية بدافع الثأر لا بدافع العدالة.
وإذا كان التحفظ مشروعاً إزاء مآل أي فكر قومي، فقد يكون من حظ دولة كردستان الوليدة ألا يطرح قادتها أنفسهم كمخلّصين قوميين، وألا يُسجّل على أولئك القادة طموح توسعي مدمِّر.
واقعياً، لا تستطيع قيادة الدولة الناشئة معاداة محيطها الجغرافي كله بسبب وجود قضايا كردية فيه، والحالة الوحيدة التي قبِلها الإقليم مرغماً وجود قوة عسكرية في جبال قنديل تتبع حزب العمال الكردستاني. لن يكون معيباً للأكراد القول بوجود افتراق تام بين قيادة كردستان العراق وقيادات حزب العمال التركي وفرعه السوري، فالأخير هو الذي يضمر نوايا توسعية للهيمنة على القضية الكردية في عموم المنطقة، وهو الذي يعادي قيادة الإقليم رغم تقديمها النموذج الأنجح حتى الآن.
تجدر الإشارة، وهذا ليس معيباً أيضاً، إلى وجود فوارق لغوية وثقافية كبيرة بين أكراد العراق وأكراد تركيا وسورية، ما يعيق بناء قضية كردية واحدة.
قد تمنح دولة كردستان المثال لأكراد الدول المجاورة. هذا لسان حال الخائفين، مع أن أوضاع الإقليم من السوء بحيث لن يزيدها ذلك تردياً. لكن، إذا شئنا التحلي بقليل من الأمل على المدى البعيد، قد يحرض استقلال كردستان على إعادة النظر في الموضوع الكردي في البلدان الأخرى، وقد يشجع على حل القضايا الكردية هنا وهناك بموجب ما يقرره أصحابها أو يتوافقون عليه مع شركائهم من الإثنيات الأخرى. إذا تحقق هذا على أرضية العدالة فلن يكون مكسباً صرفاً للأكراد، لأن المهمّشين الآخرين لن يكونوا قد خسروا سوى مخاوفهم وأوهامهم وهم يتلبسون ثوب المسيطِر.
alhayat
 

جميع المقالات المنشورة تعبر عـــن رأي كتــابها ولا تعبــر بالضرورة عـــن رأيYekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى