آراء

لن يُصلحها من أفسدها

هوشنك اوسي

إلى ذكرى رائد الفارس وحمود جنيد

“ربما ليس الآن، لكن سيأتي اليوم الذي ستفتح فيه دفاتر الثورة السوريّة، كي تعيد الأجيال المقبلة التدقيق والتمحيص في مجرياتها والتعرّف إلى مثالبها وعيوبها، بل انتهاكاتها وفظائعها! ولأن الثورة لا يعلنها ويسيّرها الملائكة أو الشياطين، بل البشر، فإن الفعل والحراك الثوري غير مقترنين بالقداسة! وصحيح أن الثورة السوريّة، لها ما لها من العظمة والسمّو الأخلاقي، لكونها تواجه وحدها أعتى أنظمة الاستبداد الشرق أوسطيّة، المدعوم من قوى إقليميّة، طائفيّة، ثيوقراطيّة، ودوليّة، فهذا لا يعني أن الثوّار السوريين قدّيسون، كما يحاول البعض ترويجه وتسويقه! قطعاً لا. ومسألة الدفاع عن النفس في مواجهة جرائم النظام الأسدي، وسعي الأخير إلى بثّ الطائفيّة والقتل على الهويّة، لا يشرعن الجرائم والانتهاكات التي اقترفها الثوّار أيضاً ولا يبررها”!

هذا الكلام، كتبتُهُ في مقالٍ، نشرته صحيفة “الحياة” يوم 3/9/2012، تحت عنوان: “لئلا ننظر للثورة السورية بعين الدوغما والقداسة” يعني، قبل ما يزيد عن ستة أعوامٍ خلت.

بعد مضي نحو شهر، ألحقتُ المقال السالف الذكر، بمقالٍ آخر، بعنوان: “مخاطر أخونة الثورة”، نشرته نفس الصحيفة في يوم 4/10/2012، ذكرت فيه: “مع بدايات الثورة السوريّة، كان يمكن التماس الأعذار للمظاهر الإسلاميّة التي رافقتها على أنها عابرة، ونتاج قمع فظيع مارسه ويمارسه النظام السوري على المجتمع طيلة أربعة عقود، إذ لم يبقِ النظام متنفّساً للتجمّع والتظاهر إلا الجوامع والمساجد. وكنّا نقلل من الانتقادات الموجّهة للثورة السوريّة المتعلّقة بسطوة وهيمنة جماعة الإخوان المسلمين. كل ذلك تحت يافطة: فليأتِ الإخوان وليذهب نظام الأسد إلى الجحيم. واتضح أننا كنّا، كعلمانيين وليبراليين وديموقراطيّين ويساريين معارضين لنظام الأسد، على خطأ كبير وفادح بأن جعلنا أنفسنا المَعبر الذي ساهم في تمرير الأجندة الإخوانيّة أو ما يمكن تسميته بـ”أخونة الثورة السوريّة” حيث قطع الإخوان المسلمون شوطاً كبيراً ومهمّاً في تنفيذ تلك الأجندة وتكريسها على أرض الواقع! هذا الخطأ الكارثي فتح المجال أمام الجماعة للدفع بالثورة نحو منزلق أخطر هو الطائفيّة، عبر ممارسات الجناح “الإخوانجي” في الجيش الحرّ. وحاليّاً، تسعى جماعة الإخوان، وعبر حضورها العسكري المتنامي في الجيش الحرّ، إلى جر الثورة نحو مستنقعات القومجيّة والعنصريّة أيضاً، عبر الإعلان عن كتائب عسكريّة باسم الديكتاتور العراقي السابق صدّام حسين. فقد أعلن الجيش الحرّ عن تشكيل كتيبتين باسم “الشهيد صدام حسين” في إدلب ودير الزور، في تحدّ سافر واستفزاز صارخ لمشاعر الكرد عموماً والكرد السوريين خصوصاً. وهذا الموقف لا تتحمّل مسؤوليّته جماعة الإخوان وحدها، بل كل التيّارات والقوى والشخصيّات العلمانيّة المعارضة للنظام.

ومن شأن هذه السلوكيّات المدانة والمقلقة ليس للكردّ فقط، بل لكل السوريين، أن تدفع الجماهير نحو الانكماش والتراجع عن دعم الثورة. ثم أن كون أسماء كتائب الجيش الحرّ مأخوذة من القاموس الإسلامي أسماء الصحابة… فهذا مسلك مفخخ يشرعن لجماعة الإخوان اتهام كل من ينتقد سلوكها، بأنه ضدّ الإسلام والرسول والصحابة! وقطعاً، هذا الاتهام زائف ومعيب ومخيف”.

مناسبة ما تم ذكره، هو التأكيد والتركيز على ضرورة وحيويّة إجراء المراجعات النقديّة الصريحة والواضحة والجريئة والقادرة على تسمية الأشياء بمسميّاتها، دون مواربة أو التفاف أو تحايل أو ميلٍ وتحيّز! مراجعة نقديّة لتركة السنوات السبع الماضيّة، وحصّة ومسؤوليّة المعارضة السوريّة وضلوعها في حرف الثورة عن مسارها، بالتعاضد والتورّط المباشر أو غير المباشر، مع نظام الأسد الكيماوي، الذي سعى إلى تحقيق هذا الهدف، وحققه قولاً وفعلاً.

ربما لست مطلعاً بما فيه الكفاية على حقبة الثمانينات، وبخاصّة بدايتها، حين دخلت جماعة الإخوان المسلمين في صراع مسلّح مع نظام الأسد الأب، بهدف قلب نظام الحكم والوصول إلى السلطة، وآمل للمطلعين على تلك الحقبة بالإجابة على التساؤل التالي: بعد طي نظام الأسد الأب ذلك الصراع بمجزرة حماة الرهيبة في شباط 1982، وما تبعها من جرائم ومجازر أخرى، وردود أفعال الإخوان عليها، عبر اقتراف جرائم وانتهاكات طاولت المدنيين، هل خرج أحد من كنف “الجماعة”، أو من الوسط والتيّار الإسلامي السوري، وأجرى مراجعة نقديّة وجذريّة وجريئة لأداء “الجماعة” وقتئذ، وفق ما تمليه هكذا ظروف وكوارث وطنيّة، بحيث ترّجح تلك المراجعات النقديّة المسؤوليّة الوطنيّة والأخلاقيّة على النوازع والمصالح والأولويّات العقديّة الحزبيّة والجهويّة؟

هل خرج علينا أحدهم، ضمن “الجماعة” وأجرى مراجعة نقديّة جديّة وجذريّة لعلاقة “الجماعة” مع نظام صدّام حسين، (الطاغية الذي أباد شعبه، وأقحم بلاده في حروب) في الثمانينات والتسعينات، وحساب نسبة الربح والخسارة من تلك العلاقة؟! ولماذا كانت “الجماعة” تتبنّى نفس وجهة نظام صدام حسين للقضيّة الكرديّة والقضيّة الشيعيّة في العراق؟

 

منذ مجيء حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة سنة 2002، وتطوّر علاقة جماعة “الإخوان المسلمين” في فترة ما قبل الثورة السوريّة، وما بعدها، مع هذا الحزب التركي الإسلامي، يعني منذ ما يزيد عن 15 سنة، هل أجرت الجماعة أو أي قيادي فيها، مراجعة نقديّة وجديّة وحقيقيّة للعلاقة مع النظام في تركيا، وحساب نسبة الربح والخسارة، على الصعيد الوطني السوري، وعلى الصعيد الحزبي؟ ولماذا تنظر الجماعة إلى القضايا القوميّة في تركيا، بنفس منظار الحزب الحكام، وبل تبرر وتشرعن سياسات الحكومة التركيّة، داخل تركيا وخارجها، بخاصّة في ما يتعلّق بالملفّ الكردي؟!

أعتقد أن الجماعة الإسلامية في مصر والجزائر، وربما بعض التيّارات في المغرب أيضاً، جنحت نحو إجراء مراجعات نقديّة في السجون والمعتقلات. لكن الإخوان المسلمين في سوريا، لم يجنحوا إلى المراجعة النقديّة الجديّة والحقيقيّة في الفكر والأداء والسلوك، ونقد الذات، لا في السجون السوريّة، ولا في بغداد أو اسطنبول أو البلدان الأوروبيّة. وحين أقول: مراجعات نقديّة، أعني مراجعات نقديّة حقيقيّة، وليس بعض التصريحات والبيانات التي مارست التقيّة والتضليل والخداع السياسي.

والحالُ أن الناظر إلى واقع المعارضة السوريّة وبؤسها، لن يألو جهداً في كشف منسوب تورّط وضلوع نظام الأسد في إفساد هذه المعارضة، سواء بشكل مباشر أو بغيره. ذلك أن الموروث البعثي – الأسدي، يعبّر عن نفسه في أداء المعارض السوريّة على أكثر من صعيد. كذلك لن يألو المرء جهداً في كشف مستوى ومنسوب تورّط جماعة الإخوان المسلمين في إفساد المعارضة السوريّة. وعليه، إذا كان نظام الأسد، فاشلاً في إدارة السلطة والدولة، وبل دمّر المجتمع والدولة والإنسان وسمم الثقافة والإعلام، كذلك فعلت الجماعة بالمعارضة السوريّة، بحيث ينطبق على الطرفين؛ نظام الأسد والإخوان، الفكرة التي طرحتها أكثر من مرّة في مقالاتي: “لن يُصلحها، مَن أفسدها”. لأن توجّه النظام والإخوان نحو الإصلاح الجدي والحقيقي، سيعني ذلك أنهما يقضيان على مبررات وجودهما. لذا، الممانعة التي أبداها نظام الأسد الأب – الابن للإصلاح، ثمة ممانعة أخرى للإصلاح، توازيها في الشدّة، وتعاكسها في الاتجاه، موجودة لدى جماعة الإخوان المسلمين السوريين أيضاً! وإذا كان نظام الأسد ضالعاً، بل هو كذلك، في إطلاق العنان للجهاديين والتكفيريين، عبر الإفراج عنهم من سجونه، كذلك جماعة الإخوان وملاحقها، أمّنت التغطية السياسيّة والإعلاميّة لتنظيمات جهاديّة وتكفيريّة وإرهابيّة كـ”جبهة النصرة” لتعيث فساداً وإفساداً وتدميراً في الثورة السوريّة!.

على ضوء ما سلف، دماء رائد الفارس وحمود جنيد، ودماء كل النشطاء المدنيين، في رقبة كل من ساهم في أخونة الثورة السوريّة، وجرّها نحو المستنقع التكفيري الجهادي، وأمّن الغطاء السياسي لتنظيمات إرهابيّة ك ـ”جبهة النصرة”، وأخواتها.

syria

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى