مايسترو اللحن السوري الأخير
مرح البقاعي
مهما اقترب الطرفان الأميركي والروسي أو تباعَدَا فيما يتعلق برؤيتهما المتغايرة لظروف ومعطيات الملف السوري، إلا أنهما في الوقت عينه قد أسَّسَا عن عمد أو غير عمد ثوابت في معالجة الحالة السورية المستعصية لا يمكن للطرفين التراجع عنها البتَّة كونها ترتبط بالقرارات الدولية النافذة لمجلس الأمن وفي مقدمتها القرار رقم 2254 الذي صوّت عليه الطرفان بالإيجاب واعتبراه ركناً أساساً في الانتقال السياسي المنشود.
من جهتها، الأمم المتحدة ممثَّلة بمبعوثها الخاص للملف السوري، غير بيدرسون، ترى أنه لا رجعة عن تحقيق الانتقال السياسي الذي تشترك فيه الأطراف السورية كافة دونما تمييز أو تغييب لأحد منها، هذا إلى جانب تهيئة الأجواء لكتابة دستور جديد لسورية يضمن تحقيق ثوابت الثورة السورية التي دفع الشعب السوري ثمنها غالياً. ويعمل بيدرسون حثيثاً على تضييق مساحة الخلاف بين قراءة واجتهاد كل من الدولتين العظميَيْنِ حول الكيفية الواجب اتباعُها لتنفيذ تلك القرارات، وآليات تحقيقها على أرض الواقع، ومن هذا المنطلق جاءت إحاطته خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الفائت ودعوته لاستئناف أعمال اللجنة الدستورية في جنيف اعتباراً من شهر أكتوبر القادم لوضع الورقة الأساس للمبادئ الدستورية.
وفي ضوء المستجدات الدولية والإقليمية التي “خربطت” الأوراق السياسية في المنطقة والعالم، كان لا بدّ من تنازلات معينة تقوم بها موسكو من أجل الدفع بعملية عودة اللاجئين وإعادة الإعمار التي هي من أولوياتها، والتي لا يمكن نقلها إلى حيز الواقع المقبول دولياً إلا من خلال تقديم أفكار تتلاءم مع التوجّه الأميركي لجهة حتمية تحقيق انتقال سياسي عادل، وإطلاق دستور يتم استفتاء الشعب السوري عليه في الداخل وفي دول الشتات.
أما الولايات المتحدة فتستمر متمسكة بموقفها مدعوماً بحلفائها العرب والأوروبيين، وبقرارات الأمم المتحدة. وقد سبق أن شدّدت واشنطن على لسان مبعوثها الخاص السابق والأخير إلى سورية، جيمس جيفري، عن أهداف ثلاثة لها تتمثّل في القضاء على تنظيم “داعش”، وإخراج القوات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها من الأراضي السورية، وتمكين عملية سياسية تقوم على أساس القرار الدولي 2254. ونوّه غير مسؤول أميركي في غير موقع أن التصدي لإيران سيكون سياسياً وليس عسكرياً، وأن واشنطن متابعة في مفاوضات جنيف من أجل منع إيران من المُضِيّ في مشروعها التسلحي النووي وبرامج إنتاج الصواريخ الباليستية، وكذا تقويض خطط ميليشياتها العابرة للحدود التي تُصدِّر الفوضى وترعى النزاعات الطائفية في سورية والعديد من دول الجوار المستهدَفة.
وأما إيران، فلم تُبدِ من طرفها أيَّ تراجع عن مواقعها التي حبكت خيوطها بالدم والنار على امتداد عقود خلت تعود إلى عهد حافظ الأسد، ولو أن تغلغلها في المجتمع السوري في تلك الحقبة كان يتخذ صبغة اجتماعية ودينية سياسية قبل أن يتحول في عهد الابن بشار الأسد إلى توغُّل وتغوُّل عسكرييْنِ وطائفييْنِ في البلاد. ويبدو أن طهران تنتظر من إدارة بايدن أن تبدأ من طرفها سلسلة من التراجُعات أو على الأقل تخفيف بعض من العقوبات عليها وعلى حليفها في دمشق لتتخذ هي خُطوةً موازيةً باتجاه سَحْب بعض من ميليشياتها أو تقليص مهامّها القتالية وتحويلها إلى دفاعية. وليس مشروع خط الغاز العربي الذي سيمر عَبْر سورية متجهاً إلى لبنان -بغض طرف أميركي عن اختراق عقوبات قيصر- سوى “الحنجلة” ما قبل الرقصة الأخيرة التي سيشترك فيها الثالوث النافذ على الأراضي السورية: الولايات المتحدة وروسيا وإيران.
من نافلة القول أن هذا الثالوث المتموضع في سورية، عسكرياً وسياسياً، كل بحسب طريقته ومصالحه، إنما يرتبط بخيوط واهية كخيوط العنكبوت، خيوط قائمة لكنها قابلة للزوال عند أية هزَّة سياسية أو مفترق ميداني. فموسكو ترى في انتشار قواتها في سورية شرعية مكتسبة من طلب رسمي قدّمته حكومة دمشق للكرملين في عام 2015 داعية الجيش الروسي للتدخل، بل يستغرب القياديون في موسكو مطالبة الولايات المتحدة بخروج القوات الروسية من كافة الأراضي السورية في الوقت الذي تُعوِّل واشنطن على القوات الروسية عينها لإخراج الميليشيات الإيرانية من البلد.
إيران المحاصرة بالعقوبات الأميركية الصارمة تجد متنفّسها في الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي الداعم للعودة إلى اتفاق عام 2015، وكذا في النفوذ السياسي لأتباعها في العراق ولبنان الذي يشكّل كمّاشة موضعية للقوات الأميركية المتواجدة في شرق الفرات ومنطقة “التنف” في الجنوب ويضرب عليها حصاراً جيوسياسياً مُحبِطاً لخطط واشنطن البعيدة المدى في سورية خاصة، والمنطقة عامّة.
فصل المقال يكمن فِي خَبايا تلك المرحلة الدقيقة من مسار القضية السورية؛ حيث موسكو تحمل العصا من المنتصف لتوجيه علاقاتها مع الدول النافذة كافة بهدف تحقيق مآرب لها متعاظمة تتفوّق على القيمة المعنوية لاستئجارها الأرضَ التي تقع عليها قواعدها لمدة 49 عاماً قابلة للتمديد. وفي ظل الانكماش الذي آلت إليه السياسة الأميركية في تعاطيها مع الملف السوري، تبقى الأبواب مشرعة على تغيُّرات راديكالية مرتقبة في مواقف الدول المنخرطة في العقدة السورية، بينما يبدو المايسترو الذي سيقود جَوْقَة اللحن ما قبل الأخير في كامل جُهُوزيَّته هناك على ضفاف نهر “موسكوفا” الذي سمّيت العاصمة الروسية على اسمه.
نداء بوست