محمد طلب هلال يعود من جديد
رياض علي
بعد أن تمكّن حزب البعث العربي الاشتراكي من الاستحواذ على سدّة الحكم في سوريا عبر انقلاب سمّي، فيما بعد، بثورة الثامن من آذار لعام 1963، سعى جاهداً لزرع أفكاره ومبادئه الشوفينية الإقصائيّة في عقول تابعيه وأعضائه، وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، بدليل أنّنا مانزال نحصد نتائج تلك الأفكار المدمرة حتّى أيامنا هذه.
حيث اعتبر هذا الحزب كل الدول العربية ومنها سوريا (المقرّ الرئيسي للحزب) عبارة عن أقطار أو أجزاء من “الوطن العربي”، ولا يمكن لأيّ قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر (المبدأ الأول من مبادئ الحزب)، وهذا يعني أنّ كل الدول التي تندرج ضمن ما يسمّى بالوطن العربي وفق منظور هذا الحزب ليست بدول، ولا تتوافر فيها مقومات الدولة، كما واعتبر أنّ المواطن العربي “هو كل من عاش على الأراضي العربية وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية”، وبالتالي على الجميع حتى لو لم يكونوا عرباً أن يؤمنوا بأنّهم عرب وينتمون إلى القومية العربية، وإلا سيتم إجلاؤهم من هذا الوطن العربي، وفق ماورد في المادة الحادية عشرة من دستور الحزب المذكور، رافضين قوله تعالى بأننا خُلِقنا شعوباً وقبائل، لذلك فإنّ المتشبّعين بأفكار هذا الحزب لا يمكنهم تصور وجود قوميات أخرى، ليس فقط داخل سوريا، بل في مجمل الوطن العربي المزعوم.
وكنا نعتقد بأنّ هذه الأفكار المدمرة التي جاء بها الحزب المذكور بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 في طريقها إلى الزوال، كونها ثورة على كل الأفكار والسياسات والممارسات السابقة التي كرّسها هذا الحزب، لكن ما نراه من قبل بعض القوميين العرب، المتشربين لتلك الأفكار والمنطلقات لم يغيروا شيئاً من قناعاتهم الإقصائيّة، وتبيّن بأنّ هؤلاء البعض كانت ثورتهم فقط لإزاحة آل الأسد دون المساس بالمبادئ القومية البعثيّة.
ومناسبة هذا الحديث، هو ما نشره مركز حرمون للدراسات المعاصرة، فقد نشر دراسة بعنوان “مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الانفصالي في شرق الفرات” لكاتبه السيد عبد الله نجار، حيث استعمل الكاتب الحزب المذكور (البيدا) كشماعة لإعادة نشر المبادئ الواردة في دستور حزب البعث وتعزيزها، حيث أورد البحث في المقدمة المعنونة بخلفيّة المسألة الكردية في سوريا، بأنّ المسألة الكردية ظهرت في سوريا بعد انهيار الدولة العثمانية، وخلال السنوات اللاحقة قاد زعماء ورجال دين أكراد عدّة ثورات ضدّ الدولة التركية التي قمعتها، الأمر الذي دفع بالكثير منهم إلى الفرار واللجوء إلى الدول المجاورة ومنها سوريا، وعلى الرغم من التواجد الكردي المنتشر في سوريا، وخاصة بدمشق، إلا أنّ الأنشطة السياسية القومية الكردية برزت نتيجة لهؤلاء “اللاجئين الجدد” أو بسببهم، وعلى الرغم من أنّ هذا البحث جاء بطريقة مهذبة وتجنّب التحدّث بطريقة جارحة بحقّ الكرد مجاراة للظروف الحالية ولتجنّب الوقوع في مستنقع الاتّهام بخطاب الكراهية، وخاصة في ظروف توسع دائرة الحريات ونداءات ضرورة تقبل الآخر، إلا أنّنا نرى أنّ هذه الدراسة، ليست إلا امتداداً للدراسة التي قام بها الملازم أول محمد طلب هلال بعد أشهر من سيطرة حزب البعث على السلطة في سوريا، والتي تمّ تبنيها في المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث لعام 1966.
إذ إنّ الأخير أنكر صفة الشعب على الكرد وأنكر عليهم الحق في العيش في سوريا أصلاً، ودعا إلى اتّباع سياسة التجهيل بحقهم وعدم إنشاء المعاهد والمدارس في مناطقهم، ودعا إلى حرمانهم من حقّ العمل لإجبارهم على الرحيل، ودعا إلى إسكان عناصر عربية قومية في المناطق الكردية وإنشاء مزارع جماعية لهؤلاء العرب، على أن تكون هذه المزارع مدربة ومسلحة عسكرياً، كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً (مقترحات مقتبسة من الدراسة التي قام بها المدعو محمد طلب هلال بعنوان دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية السياسية الاجتماعية، بتاريخ 11/12/1963)، هذه المقترحات التي أدّت فيما بعد إلى مصادرة آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية المملوكة للكرد ومنحها للعرب، الذين غمرت أراضيهم بمياه نهر الفرات بعد إنشاء سدّ الثورة، وقد عُرِفَ هذا المشروع بمشروع الحزام العربي، وربما لا يكون من باب الصدفة أن تتشابه الدراستان المذكورتان من قبل أشخاص عملوا لسنوات في سلك الأمن السياسي السيء الصيت وفي محافظة الحسكة تحديداً.
وهنا لسنا بصدد الردّ على الدراسة التي أصدرها مركز حرمون للدراسات والتي أشرنا إليها آنفاً، لأنّنا بمثل هذه المحاولة سنكرر المكرر وسنثبت المثبت أصلاً، بسبب وجود عشرات الأبحاث التي تثبت أنّ الوجود الكردي في منطقة الجزيرة السورية قديم قدم التاريخ، وسابق لتأسيس الدولة السورية بحدودها الجغرافية الحالية بآلاف السنين، وتلك الأبحاث لم يعتمد عليها البحث المذكور، ولم يأتِ على ذكرها إطلاقاً، حتى من باب التفنيد والنفي، ولكننا وجدنا في هذه الدراسة بعض الثغرات التي تثبت عدم حياديتها، وبالتالي تفقدها القيمة العلمية التي تعتبر أساس وغاية أي بحث، إذ من المفترض بأيّ دراسة بحثيّة أن تحيط بموضوع البحث من جميع جوانبه وهذا ما لم نجده في البحث المذكور.
إنّ البحث لم يأتِ إطلاقاً على ذكر مشروع الحزام العربي، الذي أشرنا له آنفاً، ربما لأنّه كان نتيجة الجهد العنصري المقيت الذي قام به ضابط الأمن السياسي، محمد طلب هلال، وهو يعتبر من أسلاف كاتب الدراسة البحثيّة، موضوع مقالنا، ولايرغب كاتبنا الحالي أن يدلل على الدراسة التي استلهم منها الكثير، كما أنّ البحث الأخير لم يتطرّق إلى سياسة التعريب التي مارستها الحكومة السورية طوال السنوات السابقة للثورة بحقّ أسماء القرى والمدن الكردية، وكان كاتب البحث موجوداً على رأس عمله في فرع الأمن السياسي بمحافظة الحسكة خلال تطبيق تلك السياسة، كونه عمل في الأمن السياسي في محافظة الحسكة لمدة اثني عشر عاماً قبل انشقاقه عام 2012، حسب ما عرّف الكاتب عن نفسه في الصفحات الأولى من البحث، ومن المؤكد أنّه كان جزءاً من فريق العمل الذي ساهم في ممارسات التعريب تلك، كونه من المعروف أنّ مثل تلك الممارسات لا يمكن تطبيقها في أيّ بقعة من الأراضي السورية بدون موافقة وتوجيه الأفرع الأمنية، ومنها الأمن السياسي، كما ولم يتطرّق البحث إلى الإحصاء الاستثنائي الجائر الذي تم في محافظة الحسكة عام 1962، والذي نجم عنه حرمان عشرات الآلاف من الكرد من الجنسية السورية، وما نجم عن ذلك، من حرمانهم من حقوقهم الأساسية لعقود من الزمن، كما ولم يأتِ على ذكر المرسوم 41 لعام 2004 الذي ربط تملّك العقارات في محافظة الحسكة بالحصول على الموافقة الأمنية، وكان من شبه المستحيل على الكردي الحصول على تلك الموافقة، كون الهدف الخفي للمرسوم هو حرمان الكرد من التملك وإجبارهم على الهجرة، تماشياً مع مقترحات المدعو محمد طلب هلال، وهو ما يعلمه جيداً كاتب البحث، وأظّنه لن ينكر هذا الأمر، بحكم خبرته وعمله في محافظة الحسكة لسنوات عقب صدور المرسوم المذكور.
أخيراً، نودّ القول إنّ الغاية من هذا المقال ليس تسجيل النقاط بحق أي شخص كان، ومنها كاتب البحث المذكور، بل لنؤكد أنّ السعي لإلغاء تواجد المكونات الأخرى في سوريا لن يعالج المرض السوري المزمن، ولن يزيد الأمور إلا تعقيداً، وسيرمي بنا في مستنقع الكراهية والعنف والعنف المضاد، فسوريا لكل السوريين، بكل إنتماءاتهم وطوائفهم وأديانهم، وإن لم نتمكّن من نفض غبار حزب البعث وأفكاره الإقصائيّة المتنكرة للآخرين عن عقولنا، فإنّنا سنراوح في دائرة الدمار والدماء التي وَضَعنا فيها هذا الحزب طوال العقود الماضية، وإن أردنا الوصول بسوريا إلى دولة تعددية ديمقراطية، فلا يكفي أن نعلن عداءنا وانشقاقنا عن آل الأسد وحزب البعث بألسنتنا، فالأهم هو أن نتخلص من تلك الأفكار التي زرعها الحزب المذكور في عقولنا، وليس كافياً أيضاً لمن يدّعي انتماءه للثورة السورية أن يختلف مع الأسد فقط، بل يُفترض فيه أن يختلف عنه أيضاً.