مسيحيو بيت نهرين في عهد الإتحاد المللي
إعداد أنطون قس جبرائيل
ستوكهولم – السويد 2023
..تتمة العدد السابق:
“ولما انتشرت أخبار عدالته وصولته في مدائن رها (أورفة) وماردين وديار بكر صار أبناء المسيحيين والمسلمين يتقاطرون أفواجاً مع عيالهم إلى قضاء ويرانشهر مركز إبراهيم باشا المللي ويسكنون ويتاجرون فيها آمنين على أموالهم”
ويقول باروت:
” وأصبح القناصل الأجانب… يهتمون ببناء علاقة مباشرة به، ويدعونه إلى زيارتهم في حلب… وكان إبراهيم باشا، من جانبه ملاطفاً للأوروبيين بثبات، و حريصاً على كسب ثقة المسيحيين المحليين الذي اخذت أعداد متزايدة منهم في الإستقرار والتمتع بالحماية في عاصمته ويرانشهر” .
وقد منحه السلطان العثماني لقب (أمير أمراء الكرد) ، ونتيجة إستفادته من فائض إنتاج القمح في ديار بكر في زمن الندرة العالمية والعثمانية وغيرها من الموارد أصبح ثاني أغنى رجل في الشرق بعد السلطان عبد الحميد الثاني.
وقد تحدث عنه إيف ترنون قائلاً :
“……… وقبيلة الملّي يرأسها إبراهيم باشا. وهذا الأخير هو اليوم الأقوى من جميع الرؤساء الأكراد في هذه المقاطعة. فقد كان غنياً جداً ، ذكياً ، داهية ، وكان بخاصة محمياً من (الباب) ……. كان يسود ناحية فيرانشيهير ”
وقد ذكر الرحالة السويدي أليكس (Alexis) الذي زاره مدى عظمته … ووصفه من لحظة دخوله إلى خيمته، وجلوسه فوق كرسي مغطى بجلد أسد … وكان السجاد فوق الأرض مخصصاً لجلوس الضيوف، والمرشد كان أرمنياً …. ويذكر كيف يريد الباشا أن تتمتع المنطقة بالحرية والسلام ….
أما نهايته فكانت عام ١٩٠٨م عندما كلفه السلطان بحماية (الخط الحديدي الحجازي) ، فوصل في ايلول من عام ١٩٠٨م الى دمشق مصطحباً معه فرسانه وزعماء عشيرة حرب العربية ، ليستعين بهم على إقناع عشيرة حرب الحجازية لعدم تخريب خط السكة .
ولكن الفرصة لم تتسنى له بسبب تولي الإتحاديون السلطة في الأستانة، وإرغامهم السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور، وقد نبهه أكراد دمشق وبعض القناصل الأجانب بنية الإتحاديين القضاء عليه، فعاد مع قواته إلى ويرانشهر والقوات العثمانية تتعقبه، ووقعت بينه وبين العثمانيين الذين آزرتهم عشيرة (الفدعان/ العنزة) معركة كبيرة قرب حلب نتج عنها وقوع قتلى من الجانبين وعند وصوله قام بإنذار القوات العثمانية لفك الحصار عن ويرانشهر ولما لم تستجب، وقعت أعتى المعارك بين الطرفين واضطرت القوات العثمانية إلى الإنسحاب وبقيت عشيرة قره كيج الكردية تواصل القتال ضد المللية.
وفي الأسبوع الثاني من أيلول ١٩٠٨م صدرت أوامر الأستانة إلى القوات في حلب وبغداد بأن يحضروا إبراهيم باشا حياً أو ميتاً.
وفي أواخر أيلول أخذت قوات إبراهيم باشا بالإنهيار، فطلب الأمان من السلطات وأن تسمح له بإستدعاء طبيب لمعالجته وألاَّ تتعرض له العساكر والعشائر … ولكن بدون جدوى فواصل الفرار ، وتسببت حالة الحصار والمطاردة وعدم السماح بإستدعاء طبيب لمعالجته ، إضافة لإنفضاض الكثير من الرجال عنه بوفاته بتشرين الأول عام 1908م بقرية صفيا التي تبعد عن مدينة الحسكة حوالي 12 كم شمالاً ، وقد دفن فيها ثم نقل جثمانه لاحقاً إلى قرية تل البيزاري شرق صفيا .
خامساً : ويرانشهر : تيلّا بالسريانية
ويرانشهر مدينة مار يعقوب البرادعي، كانت تسمى سابقاً موزلت تقع بين ماردين والرّها أغلب عائلاتها سكنت ماردين ورأس العين ، وقد اختارها محمود بك لتكون مركزاً رئيسياً للاتحاد المللي وجدد قلعتها وتابع إبنه إبراهيم باشا العناية بها ، فقام بشق الطرق وبناء الأسواق ومخازن الحبوب ومستودعات السلاح والحدائق ، وبنى قصراً على النمط الحديث غرب البلدة ( قصر الباشا ) وهو الآن مدرسة. والعديد من القصور كما بنى ميتماً ومدرسة (تكية) وسجن والعديد من الجوامع وعدد من الكنائس منها (كنيسة القديس يوحنا المعمدان وكنيسة القديس أفرام وكنيسة السيدة العذراء) وأسقفية في ويرانشهر للمسيحيين
ويتحدث إيف ترنون عنها بكتابه ماردين :
” فيرانشيهير قصبة كبيرة …… يعيش فيها ثلاثة آلاف مسيحي …… فهذه المدينة فيرانشيهير تمثل حالة مثالية للخليط الطائفي …… وفي القرن التاسع عشر، بفضل حسن إلتفات من رئيس (أكراد ميلي) إبراهيم باشا الذي كانت فيرانشيهير منطقة نفوذه، جاء العديد من مسيحيي ماردين ومن سفريك فأقاموا فيها وبنوا بعض البيوت، وفتحوا عدة أنواع من التجارة، الأمر الذي ساهم بالتطور الاقتصادي لمدينة فيرانشيهير، فمنذ 1880، مدينة تيلَّة القديمة، التي ظلت مفتقرة مدة طويلة، عرفت إزدهاراً جديداً ……”.
وقال ستيفان وينتر بأن:
” ويرانشهر ضمت ما يقارب من ٦٠٠ عائلة مسيحية عدا الذين كانوا يسكنون في القرى المحيطة، غالبيتهم كانوا أرمن كاثوليك لكن كان هناك أيضا سريان كاثوليك، سريان أرثوذكس، أرمن غريغوريون وعدد صغير من الكلدان”
ويقول د. عثمان علي:
” إذ شجع إبراهيم باشا الكثير من الأرمن والأيزيديين على الإستيطان في ويرانشهر والقرى المحيطة بها، والتي كانت في إزدهار كبير حيث بنى أربعمائة قرية مزدهرة في أطراف ويرانشهر” .
وحول هذا الموضوع نورد بعض ما قاله باروت:
” جذب هذا المجال الآمن الذي حققه إبراهيم باشا في مثلث ويران شهر – قره جه داغ – رأس العين وجبل عبد العزيز بدءاً من عام ١٨٨٠م مئات العائلات السريانية والأرمنية التجارية النشطة في مدينتي ماردين وسفريك… إلى الإنضواء في حلفه، أو إتحاده العشائري المفتوح للملل كافة.”
ويقول الباحث الروسي (كردليفسي) بأن الأرمن الذين أنقذهم إبراهيم باشا من الموت، كانوا سبب في إزدهار ويرانشهر. وقد قام إبراهيم باشا بمد العاملين بالتجارة والصناعة برؤوس الأموال اللازمة من أجل تنشيط الحركة التجارية والصناعية.
سادساً : الأوضاع العامة في مناطق الإتحاد المللي
مارس أمراء المللية الحكم الذاتي في مناطقهم ضمن إطار السلطنة العثمانية فمن :
١- الناحية السياسية :
تصرف الملليون معظم الوقت ككيان مستقل ، ولم يهادنوا يوماً القوى التي حاولت السيطرة على كردستان، فقد كانوا سباقين في إعلان الإنتفاضات والثورات ….. وكان الهدف الأول هو الإستقلال بدلالة تحالفهم مع المصريين في حربهم ضد السلطنة العثمانية، ورفض إبراهيم باشا محاربة اليونانيين، ورفضه الإشتراك في الحملة الموجهة ضد ثوار اليمن. وقد أكد الدكتور الفرنسي منسيل بأن إبراهيم باشا كان يحلم بدولة كردية .
٢- الناحية العسكرية :
كان التنافس شديداً بين القبائل، وكانت علاقة المللية مع محيطهم العشائري متوترة ويشوبها الحذر الشديد أغلب الأحيان، وفي ظل عدم تدخل السلطة المركزية بالصراعات إلاَّ في الحالات التي تخرج عن السيطرة، كان مبدأ القوة هو السائد في علاقة العشائر بعضها ببعض، خاصة أن السلطة كانت في بعض الأحيان تشجع مثل هذه الصراعات ، ويكفي أن نذكر أنه مع بداية القرن العشرين اصطدمت المللية مع قبيلة شمّر مراراً بالأعوام ١٩٠٠م و١٩٠٢م و١٩٠٥م ومع عشيرة القره كيج الكردية بعام ١٩٠٤م.
لذلك كان لزاماً أن تبقى القوة العسكرية للمللية في جهوزية دائمة، طالما أن سلطة الدولة العثمانية كانت في شرق الأناضول (سلطة اعتبارية) في أغلب الأحيان.
٣- العدالة :
كان الملليون يعملون على تحقيق العدالة في مناطقهم عن طريق :
– المحاكم التي كانت تتبع وزارة (الحقانية) وتطبق قوانين السلطنة السائدة.
– الملالي الذين كانوا يبتّون بالخلافات المعروضة عليهم وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
– العارفة (حسين الحنظل)، وهو من عشيرة عدوان وكان يعرف بلقب (عارفة المللية)، وكان يبت بالقضايا المعروضة أمامه وفق الأعراف العشائرية.
– المحاكم الطائفية المسيحية، وكانت تبت بالخلافات الناشبة بين أفراد الطائفة وفق الأحكام الكنسية، توفيقاً مع نظام الملّة العثماني الذي كان معمولاً به في السلطنة العثمانية.
٤- الإقتصاد :
كان النشاط الإقتصادي في المدن تجارياً ، وفي القرى زراعياً ، وفي البوادي رعوياً ، ولكن القسم الأكبر من القبائل المللية كانت تعتاش على تربية الماشية من الأغنام والماعز والأبقار إضافة إلى القليل من الإبل . وكان التجار يتوجهون لمناطق المللية لشراء المواشي والأغنام والصوف، ونقلها إلى أسواق دمشق وبيروت وحلب، حتى أنهم كانوا يرسلونها إلى إستانبول، اما جباية الضرائب فكانت بواقع ليرة ذهبية عثمانية عن قطيع الأغنام أو الجمال وحوالي 12٪ من إنتاج القمح والشعير و10٪ من أرباح أصحاب دكاكين الفاتورة …. إلخ .
٥- الحالة الإجتماعية :
رغم ندرة المراجع التي تطرقت إلى الناحيتين الإقتصادية والإجتماعية إلاَّ أن الأخبار المتواترة شفاهاً تقودنا إلى نتيجة مفادها أن كل النشاطات كانت تتمحور حول العائلة والعشيرة ، وكانت بنية المجتمع طبقية هرمية شديدة التنوع من حيث الإنتماءات والعصبيات القبلية والطائفية والعرقية ، وكل مكونات هذا المجتمع التعددي كانت تميل إلى التعايش مع بعضها بسلام ، وبدون هيمنة مكون على آخر، مع احتفاظ كل مكون سكاني بخصوصياته اللغوية والإثنية والدينية والثقافية .
ولعل أفضل تشبيه للتراتبية العائلية التي كانت سائدة في المجتمع المللي ما أورده هشام شرابي بهذا الخصوص : ” فالأب هو المحور الذي تنظم حوله العائلة بشكليها الطبيعي والوطني، إذ إن العلاقة بين الأب وأبنائه وبين الحاكم والمحكوم ، هي علاقة هيمنة، فإرادة الأب، في كل من الإطارين، هي الإرادة المطلقة، ويتم التعبير عنها في العائلة والمجتمع، بنوع من الإجماع القسري الصامت، المبني على الطاعة والقمع” .
سابعاً : المسيحيون في ويرانشهر
برغم أن سنجق ماردين كان منطقة السريان وطور عابدين ملجأهم الجبلي، إلاَّ أن إنعدام الأمن الذي ازداد بسبب تهاون الإدارة العثمانية دفع الكثير من المسيحيين وغيرهم إلى الهجرة إلى ويرانشهر ومحيطها لتوفر الأمان خاصةً أن علاقة المللين بالمسيحيين كانت جيدة ، ولدى الحديث عن أيوب بك أوردنا ما قاله الأب جوزيف وولف ونكرره هنا “… كما أن المسيحيين واليهود يثنون بشكل كبير على نزاهته وعدالته”
ويؤكد مارك سايكس بأن إبراهيم باشا إستمرّ بممارسة تقاليد قبيلته ومن هذه التقاليد حماية المسيحيين في المنطقة .
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “323“