آراء

مـن الحلم القومي إلى الأمـل الوطني: قــراءة في التجربة الكُـردية والثـورة السورية

نجم الدين كياض

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بدأنا نشاطنا الحزبي ولم نكن نملك وعيًا سياسيًا ناضجًا. كنا شبابًا تتحركنا العاطفة، مدفوعين بحماسة الانتماء لقضية شعبنا الكردي الذي عاش طويلاً تحت نير القمع والتهميش. أتذكر قول والدي -رحمه الله-: “يا بني، كلنا نحب سوريا وقضيتنا الكردية، لكن خوفي من هذا النظام، فهو لا يرحم.” كان الخوف حاضرًا دائمًا في ظل دكتاتورية لا تقبل الاختلاف.

مع مرور الوقت، أدركنا أن العمل السياسي لا يُبنى على الشعارات وحدها، بل على فهم الواقع بكل تعقيداته، وأن النضال الحقيقي يتطلب تضحية والتزامًا يتجاوز الانتماء القومي نحو مشروع وطني وإنساني، يدافع عن الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان.

كان النشاط الحزبي محفوفًا بالمخاطر. تعرضنا للملاحقة والاعتقال، واتُهمنا بالانفصالية لمجرد مطالبتنا بحقوق شعبنا. لم نرَ في السياسة وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية، بل مسؤولية أخلاقية تجاه وطن متنوع، تتعدد فيه الثقافات والانتماءات.

رغم انتمائنا إلى مدن كردية ضاربة الجذور في عمق التاريخ، لم يكن نضالنا انعزاليًا، بل جزءًا من مشروع تحرر وطني يعترف بالتعددية السياسية والقومية والثقافية في سوريا. قبل عام 1920، لم تكن لسوريا حدود سياسية واضحة، وجاءت ولادتها الحديثة وفق اتفاقية سايكس-بيكو، التي خضعت بموجبها للانتداب الفرنسي.

في أول دستور سوري عام 1928، سُمّيت البلاد “الجمهورية السورية”، دون صفة “العربية”، واستمر ذلك حتى عام 1950، حين أُقرّ دستور يؤكد الطابع المدني للدولة والمساواة بين المواطنين. غير أن انقلاب 8 آذار 1963 غيّر هذا المسار، بإدخال “الجمهورية العربية السورية” إلى النص الدستوري، وتبنّي خطاب قومي إقصائي، همّش المكونات غير العربية سياسيًا وهوياتيًا.

لسنا هنا في سياق سجال هوياتي، بل لتفنيد الروايات الرسمية التي أنكرت وجود مكونات أصيلة، كالشعب الكردي، واعتبرته طارئًا، رغم جذوره العميقة وإيمانه بوحدة الوطن وحق تقرير المصير ضمن إطار سوري جامع. فقد ساهم الكرد سياسيًا وعسكريًا في بناء الدولة السورية، رغم محاولات محوهم من السردية الرسمية.

بعد سقوط الدولة العثمانية، لم تكن الجزيرة السورية (شرق الفرات) جزءًا فعليًا من الكيان السوري، بل ضُمت تدريجيًا بعد اتفاقيتي سان ريمو 1920 ولوزان 1923. وبسطت فرنسا سيطرتها على المنطقة إثر ترسيم الحدود مع تركيا، فغدت الجزيرة الكردية ضمن سوريا الخاضعة للانتداب.

في عهد البعث وحكم الأسدين، تعرض الكرد لسياسات تمييز ممنهجة، من أبرزها الإحصاء الاستثنائي عام 1962 ومشروع الحزام العربي، إلى جانب قوانين رسّخت صورة الكرد كتهديد للوحدة السورية ولـ”الأمة العربية”، رغم أن هذه الأمة لم تكن يومًا كيانًا موحدًا.

وجاءت الثورة السورية عام 2011 كصرخة وطنية جامعة انطلقت من درعا، وسرعان ما شارك فيها الكرد، رافعين شعار “سوريا لكل السوريين”. كانت ثورة شعبية تتجاوز الطوائف والقوميات، لكن مسارها تغيّر سريعًا بفعل تدخلات إقليمية ودولية، وتعسكرت، وركبت موجتها قوى متطرفة ودعوات قومية وطائفية، اختطفت حلم التغيير.

منذ البداية، رفضت القوى السياسية الكردية عسكرة الثورة، مؤكدة أن الحل السياسي وحده يمكن أن ينقذ سوريا. وحذّرت من الانزلاق نحو صراعات مفتوحة ستدفع الشعوب ثمنها، وهو ما تحقق لاحقًا، حين تحولت الثورة إلى ساحة لتصفية الحسابات، واختزلت مطالب السوريين في أجندات خارجية.

رغم المشاركة الرمزية للحركة الكردية في بعض أطر المعارضة، لم يكن الكرد مقتنعين بمساراتها. لكنهم ظلوا أوفياء لقيم الثورة الأولى: الحرية، الكرامة، والعدالة. وواجهوا محاولات فرض الهيمنة باسم الوطنية، كما تصدوا سياسياً للانتهاكات التي ارتُكبت باسم الثورة.

وعندما سقط النظام في 8 كانون الأول 2024، استبشرنا خيرًا، لكننا صُدمنا بتحويل الثورة إلى مكاسب ضيقة اختزلتها بعض الأطراف في أشخاص أو تيارات ذو خلفية جهادية، وهو ما لا يليق بتضحيات شعب قدّم أغلى ما يملك.

ما يجري اليوم لا يخدم الشعب، بل يزيد من تفكك البلاد وتهديد وحدتها. نحن بحاجة إلى استعادة روح الثورة، وإعادة بناء سوريا على أساس مدني ديمقراطي، وفق دستور توافقي يحفظ حقوق جميع المكونات.

سوريا المستقبل ليست قومية أحادية، ولا دينية متطرفة، بل دولة مدنية تحفظ كرامة الإنسان وحقوق الجميع. كل ثورة بعد انتصارها تحتاج إلى “غربلة” تُبعد المتسلقين، وتعيد الاعتبار لأصحابها الحقيقيين.

رغم أن الشعب السوري لا يملك القرار الآن، إلا أنه يملك الإرادة. وسيأتي جيل جديد يحمل الشعلة، ويبني سوريا التي نحلم بها: دولة علمانية، عادلة، ديمقراطية، تحفظ ذاكرة الشهداء، وتنصف المظلومين، وتكرم كل من ناضل من أجل وطنٍ حرٍ للجميع، وفي مقدمتهم الشعب الكردي المتجذر في هذه الأرض منذ آلاف السنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى