من آثار الحروب على المجتمعات
صباح إبراهيم
للحروب آثارٌ مدمّرة على المدنيين في المجتمعات التي تشهد دولها الحروب على أراضيها ،وخاصةً عندما تطول سنوات الحرب, فكما هو معلوم الحرب هي نزاع مسلح بين دولتين أو أكثر، وتستخدم فيه كافة انواع الأسلحة، ففي ظلّ سنوات الحرب تصبح حياة المدنيين قلقة مضطربة، ينعدم فيها الاستقرار والأمن والأمان الذي هو العنصر الأهم لحياة طبيعية كريمة مستقرة, وتكثر المجاعات والأزمات وتسوء الأحوال وتكثر العصابات وتسود الفوضى في العلاقات الاجتماعية والإنسانية, وباعتبار أنّ الأسرة والعائلة هي من أهم الخلايا في المجتمعات الإنسانية، وكانت على مدى العصور هي المحددة لهوية الشخص الاجتماعية لأنها تطبع الأفراد وتربطهم بروابط دينية وروحية وانسانية، فهي الركيزة الأساسية في تحصينهم من الانحرافات سواءً الفكرية أو الأخلاقية أو السلوكية, وبعبارةٍ أخرى وأشمل نستطيع أن نقول إنّ العائلة هي الوطن الصغير، وهي الملاذ الآمن الذي يستطيع حماية أفراده من كلّ المخاطر المحدقة ؛ عندما تتعرّض المجتمعات للمخاطر والمصاعب, فالعائلة السورية عموماً والكُردية خصوصاً, كانت وعلى مرّ الأزمنة من العائلات المتينة المتماسكة، وكانت أواصر المحبة تربط بين أفرادها, وتتميّز بتفاني الوالدين وحبهم للعمل في كلّ المجالات، من زراعة وصناعة وتجارة… من أجل سعادة أبنائهم, وأثبتوا تفوقهم في ميادين العلم والمعرفة, ومع بساطة الحياة وقلة وسائل الراحة والرفاهية وقتها ؛كنا نجد الفرح والصدق بالتعاملات رغم متاعب الحياة ومشقاتها، ففي الكثير من البيوت كان يسكن أكثر من ثلاث عائلات من الأعمام والأجداد والعمّات … وكان التفاهم والمحبة غالباً يعمّان القلوب, أما الآن بعد سنوات الحرب المدمّرة فقد تغييرت النفوس وطبيعة العلاقات الاجتماعية ، فسنين الحرب لم تبقِ من العائلة غيراسمها.
عندما تكون الحرب تفقد المجتمعات ألقها ؛ فكيف إذا كانت الحرب كما هي في بلدنا سوريا, سنين طالت وخابت معها الآمال بالخلاص, وتزداد المأساة يوماً بعد آخر, ففي كلّ عائلةٍ شهيدٌ أو أكثر, والكثير من المفقودين والنازحين من منطقةٍ لأخرى, وكثرت العصابات وانعدم الأمن، وسادت الأمية وما زاد الطين بلّاً الحصار المفروض على الشعب الذي كان من أحد الأسباب في الغلاء الفاحش للأسعار وفقدان المواد الضرورية من أدوية وحليب الأطفال وغير ذلك من المستلزمات الأساسية للحياة – فالماء و الكهرباء أصبحا حلماً للمواطن السوري… ومع هذه الظروف الكارثية الصعبة أصبح المواطن يبحث عن منفذٍ للخلاص، حتى وإن كان الطريق إلى الخلاص مليئاً بالمخاطر ، وفي كثيرٍ من الأحيان يؤدي إلى الموت في البحار والغابات, فمادامت الحياة في الوطن باتت أشبه بالموت البطيء فمن الطبيعي أن تصبح الهجرة حلم كلّ شخصٍ؛ ومهما كان الثمن.
فهنا عائلة مكونة من سبع أفراد لم يبقَ منهم سوى أب وأم عجوزين ،يعيشون وحدهم يتجرّعون مرارة الأيام وذكرياتٍ قضوها في هذا البيت مع أبنائهم ، وأصبحت الشاشة الزرقاء (الهواتف النقالة) الوسيلة الوحيدة للتواصل مع أبنائهم وأحبابهم ، لكنها لا تفي بغرض إيصال المشاعر والمعاناة الحقيقية لكلا الطرفين, فالباقون في الوطن يعيشون المآسي بأنواعها, والغائبون عن عوائلهم ، أرواحهم ما تزال تعيش بين عوائلهم في الوطن وأجسادهم في الغربة مشتتة..
وعائلة أخرى كانت بالأمس القريب يُضرب بها المثل بمثاليتها وطيبتها استشهد الابن الطبيب وأخته بانفجارٍ، وبقيت الأم جسداً تناجي أرواحاً تركتها بغير رجعة, وهنا عائلة أخرى باعت كلّ ما تملك لتتمكّن من تأمين مصاريف هجرة الأب ليذهب عن طريق المهرّبين الذين يستغلّون المهاجرين ويطمئنونهم بأنّ طريق النجاة آمن ومضمون تماماً، لكن في الكثير من الأحيان يقوم المهرّبون باستغلالهم ورميهم في البحار على متن (البلم) الذي هو من وسائل التهريب ،ليواجه كلّ واحدٍ على متنه مصيره وقدره، مات الأب وبقيت الأسرة بلا معيل وبلا بيت يأويها, وقصص عديدة أخرى.. فقصص المآسي هذه كثيرة ولا تُحصى ، فهي توضّح المآسي التي يعيشها ،ويعاني منها مجتمعنا السوري والكُردي, جراء سنين الحرب الطوال, حيث شعب كامل فرط كما حبّات مسبحة مفروطة، قلوبهم ماتت بفراق مَن يحبّون صارت الوحدة جزء من حياتهم ، وما عاد يعنيهم الفرح, فالأعياد تأتي باردة لا طعم لها، بل تكون فقط تقلباً للمواجع ، يتذكّرون أولادهم وأخوتهم في بلاد المهجر عندما كانوا يملؤون الحياة حولهم فرحاً، ويقومون بزيارة قبور أبنائهم الذين استشهدوا بعمر الورد وكانو قرابين لحرب مدمرة, لا أحد يعرف : متى تحطّ هذه الحرب أوزارها ؟ ومتى تهدأ نيران قلوب الأمهات؟
سكان مدن كاملة نزحوا من بيوتهم مرغمين تاركين كلّ شيءٍ وراءهم, أموالهم وذكرياتهم وبيوتهم ليسكنوا خيماً أبعد ماتكون عن مكانٍ يسكنه البشر, تستمرّ معاناتهم كلّ يومٍ، شتاء بارد قارس وصيف حار جداً، حلمهم الوحيد هو العودة إلى بيوتهم الدافئة في موطن الآباء والأجداد..
كلّ هذه المآسي تحدث أمام مرأى ومسمعٍ من العالم الأصمّ والأبكم ، فكلّ قوانين حقوق الإنسان وكلّ القرارات الأممية ليست سوى حبراً على ورقٍ، عندما توضع المصالح الدولية بالكفة الأخرى من الميزان.
ومع كلّ ذلك سيبقى الأمل بغدٍ أفضل, أملنا دائماً بغدٍ تنتهي فيه الحرب ،وينتهي الظلم ويعود الأمن والأمان والدفء لكلّ بيتٍ، ويعود كلّ غائبٍ إلى بيته وبين أهله وناسه.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 291