آراء

من أربيل ….إلى الشرق الأوسط الكبير … !

عبدالرحمن كلو*
منذ الحادي العشر من سبتمبر أيلول 2001 والشرق الأوسط يعيش حالة مخاض عسيرة، بدأت مع إسقاط حكم طالبان في أفغانستان ومن ثم غزو العراق واسقاط نظام صدام حسين وتداعياته في الجوار الاقليمي، ومع تصاعد وتيرة المد الاسلام السياسي المتطرف والحروب
والصراعات الداخلية في دول المنطقة دخل الشرق الأوسط النفق المظلم الذي منه سينتقل إلى المرحلة التالية، إذ بات من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت إعادة هيكلتها بما ينسجم مع مصالح أمنها القومي خاصة وأن سايكس بيكو بحدودها الحالية فقدت مدة صلاحيتها بالنسبة للجغرافيا السياسية للمكونات القومية والطائفية في المنطقة، وأنها أخطأت في الكثير من المعايير عند التشريح الجغرافي- السياسي إبان الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من معرفتنا بأن التغيير في الشرق الأوسط قادم وبإرادة أمريكية ولخدمة المشروع القومي الأمريكي أولاً لكننا نجهل الكثير من جوانب الإيقاعات والسياقات الإجرائية التكنيكية لهذا التغيير: فكيف؟ ومتى ؟ أدوات التغيير؟ البرنامج الزمني؟ ومن أين سيبدأ التغيير؟ وماذا ينبغي علينا فعله لنكون بمستوى الحدث أو يكون بمقدورنا أن نكون شركاء في صناعة معادلة التوازنات الشرق أوسطية الجديدة ؟ هذا ما نحتاج البحث فيه والحديث عنه في كل جدول عمل.
وربما بسبب تعقيدات الحالة الأمنية والسياسية التي تعيشها المنطقة الآن بدءاً من افغانستان وإيران ومروراً بالعراق وسوريا ولبنان، يتعذر علينا فهم الكثير من جوانبها بحكم تقاطعات وتناقضات مختلف المشاريع والأجندات وخاصة في الجوانب التفصيلية المتعلقة بسيرورة الأحداث، لكن في النهاية التغيير بخطوطه الأساسية المرسومة له أمريكياً قادم لا محالة، وأن مشروع الشرق الأوسط الكبير سيدخل حيز التنفيذ على مراحل، وأن حدود سايكس بيكو باتت هشةً إلى درجة أن منظمة أو تنظيماً مسلحاً يستطيع إلغاء هذه الحدود وبقوى عسكرية صغيرة لا تتناسب مع حجم المهمة ألا وهو إحداث تغيير في حدود دولة ذات سيادة، نعم هكذا ببساطة تخترق الحدود الدولية بين سوريا ولبنان بين تركيا وسوريا، بين العراق وسوريا، لكن هل نصدق أنفسنا بأن هذه المنظمات المسلحة تستطيع أن تفعل ما عجزت عن فعله قوى وكيانات سياسية عريقة عبر عقود من الزمن، بالتأكيد المنطق لا يوافق على هذه المقاربة، لذا علينا التصريح بالقول أن كل المنظمات المسلحة والتي تعمل خارج مؤسسات منظومات الشرعية الدولية والأممية ماهي إلا أدوات تنفيذية مأجورة لمشاريع وأجندات دولة معينة بذاتها مثل إيران و تركيا والولايات المتحدة، السعودية، اسرائيل وغيرها …. ، تقاتل بالوكالة، وكل ما يجري هو صراع إرادات يدخل في إطار نظرية الفوضى الخلاقة التي تنتهجها أمريكا في المنطقة.
فبالعودة إلى ما يجري الآن في العراق نرى أن هناك عناصر أساسية ثابتة لا يمكن الاجتهاد فيها أو تحويرها أو تأويلها ألا وهي :
بخصوص تشكيل الحكومة ولكي يضمن المالكي لنفسه ولاية ثالثة كان قد قرر وبالتنسيق والتفاهم مع إيران بتشكيل حكومة أغلبية سياسية من خلال قائمة دولة القانون ذات أغلبية المقاعد بالنسبة للقوائم الفائزة الأخرى، بالتحالف مع بعض الأطراف الكردية المقربة من إيران – باستبعاد البارزاني – ومن الأطراف العربية من الصحوات والشخصيات المستقلة من العرب السنة مع إبعاد كتل المتحدون والعربية والوطنية ذوي النفوذ السياسي الفعلي في مناطق غرب ووسط العراق، أي أن مستقبل العملية السياسية في العراق كان على أبواب تغيير مفصلي وجذري .
المصادر الأمنية في إقليم كردستان صرحت أنها كانت قد أعلمت حكومة المالكي في وقت سابق ( قبل أشهر) بأن هناك احتمال لهجوم وشيك على الموصل وبعض مناطق السنة العرب لكن حكومة المالكي لم تتجاوب مع تحذيراتنا وهذا يعني أن المالكي كان هو أيضاً على علم مسبق بالأمر، فإذا كان الطرفان على علم مسبق فحكماً الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم ودراية وبدقة أكبر، وبما أن إيران هي القوة المهيمنة على كل مفاصل الدولة العراقية وخاصة الجانب الأمني فهي بالتأكيد لديها كل المعلومات المسبقة، لذلك رأينا أن مثل هذا الحدث الكبير الذي تمثل بانهيار جيش كبير وهروبه من المعارك وتسليم أسلحته لمجاميع مسلحة قليلة العدد والعدة بالنسبة للجيش العراقي لم يشكل مفاجأة عند أي طرف باستثناء الطرف المتضرر من العملية وهو المكون العربي السني المختلف مع المالكي، فالعملية رغم خطورتها الكبيرة خلت من عنصر المفاجأة تماماً وردود الأفعال العراقية الرسمية والايرانية والأمريكية كانت هادئة جداً على غير توقعاتنا بالنسبة لحجم الحدث، حتى الموقف التركي وبالرغم من خطف واحتجاز ثمانين موظفاً ومسؤولاً في القنصلية التركية لم يكن انفعالياً ولم يخرج عن سياسة الناتو بل بقي ملتزماً بما يصدر من الحلف من قرار.
قوات البيشمركة دخلت جميع المناطق التي كانت تسمى بالمتنازع عليها، وقامت عملياً بضم مساحات تقدر بـأكثر من 30 ألف كيلو متر مربع إلى مساحة الإقليم بما فيها كركوك وحوالي 145 كم من الشريط الحدودي الاستراتيجي مع سوريا.
في اليوم التالي مباشرة دعت المرجعيات الشيعية إلى التطوع في الجيش لمواجهة المد العسكري للجماعات الاسلامية المتطرفة، علماً أن السبب في انهيار الجيش العراقي لم يكن في عديد القوات ولا في العدة ونوع الأسلحة، وتباعاً أصدر المالكي قراراً بتسريح جميع الضباط من رتبة عميد فما فوق، وبعدها بأيام انسحاب الجيش العراقي من بعض المدن الصغيرة والمعابر الحدودية مع الأردن وسوريا لأسباب ” تكتيكية ” من دون قتال .
أمريكا اعتبرت أن ما يحدث هو صراع طائفي وأنه شأن داخلي عراقي، وبناء على معطيات الرأي العام الأمريكي الرافض للتورط أكثر في العراق والتي كانت أساساً لعقيدة سياسة أوباما ووعوده الانتخابية، فالبيت الأبيض أعلن أن أمريكا لن تتدخل عسكرياً بشكل مباشر عن طريق القوات البرية على الأرض بل ستكتفي بتنفيذ بعض العمليات القتالية المحدودة عن طرق الجو عندما يطلب منها ذلك، وتم الطلب منها فعلياً، أو المساعدة في إطار التدريب أو تقديم الخبرة العسكرية والاستشارة، كما أنها لن تسمح بدخول قوات عسكرية إيرانية إلى العراق، على الرغم من سماحها بدخول بضع مئات من الخبراء العسكريين الإيرانيين ( في إطار تقديم الخبرات لجيش المالكي )، كما لم تسمح بدخول قوات تركية لتنفيذ مهمة خاصة بتحرير موظفي القنصلية التركية المحتجزين في الموصل كي لا تستباح الحدود السياسية لدولة العراق.
الولايات المتحدة الأمريكية مرغمة على إعطاء الأولوية في التعاون مع الجانب الأكثر استقراراً في العراق وستعتمد – أساساً – على الطرف الأكثر تنظيماً وانسجاماً مع مشروعها في العراق ، لذلك فهي ستتحرك من إقليم كردستان وستدير العملية السياسية والأمنية من هناك مع محاولة الاحتفاظ بعلاقة توازنية مع المكونات الرئيسية العراقية الثلاث وستكون على مسافة واحدة من هذه المكونات، وذلك لامتلاك المرونة اللازمة والكافية للعملية الدبلوماسية، عند إطلاق مشروع إعادة تأهيل الدولة العراقية والبدء بآلية العمل الخاصة بترتيب البيت العراقي بحسب مشروعها.
على الجميع أن يعلم بأن العراق بعد تاريخ 10/6 دخل مرحلة جديدة تماماً إذ لا عودة عن واقع ما بعد هذا التاريخ، وكل من يريد البحث في حل الأزمة عليه البدء من واقع ومعطيات الوقائع الحالية على الأرض، إذ أصبح الواقع الحالي أمراً واقعاً من الاستحالة بمكان العودة منه، والواقع الحالي الذي فرض من قبل السنة والكرد يعني :
1- الجيش العراقي الحالي والذي بأغلبيته الساحقة من المكون الشيعي لن يدخل مناطق العرب السنة في وسط وغرب العراق .
2- القرار السياسي والعسكري والأمني في مناطق العرب السنة لن يكون إلا بأيدي ممثلي أهلها.
3- قوات البيشمركة لن تخرج من المناطق التي دخلتها إلا بوضع نهاية للمادة 140 من الدستور.
4- لن يبقى العراق موحداً إلا وفق عقد شراكة جديدة بين المكونات الرئيسية الثلاث .
من خلال استعراض الثوابت السابقة يمكن القول بأن ما جرى و يجري الآن في العراق لم يكن حدثاً طارئاً ولا مفاجئاً، بل هو حدث مسبق التنظيم والتخطيط تم الاعداد له من قبل دوائر ومؤسسات مختصة بشؤون الشرق الأوسط، وأن معظم الأطراف ذات العلاقة كانت على دراية مسبقة بالأمر وبعضها كانت شريكة في ترتيب الأحداث أو على الأقل قبلت بالاشتراك مكرهة أو على مضض، وأن موضوع انسحاب الجيش العراقي وانهياره ما كان إلا عبارة عن عمليات استلام وتسليم حقيقية، كما أن قوات البيشمركة بدخولها المناطق المتنازع عليها وبدء الإقليم ببيع النفط بشكل مستقل عن بغداد، كل هذه الوقائع خلقت واقعاً سياسياً جديداً تماماً وعلى المالكي وإيران أن يتعاملا مع الواقع المستجد وفق مفرداته الجديدة، فالعراق بات مقسماً فعلياً بحسب الجغرافيا السياسية لمكوناته الرئيسية الثلاث ولا بديل عن الحلول التوافقية بعيداً عن سياسة الاستئثار وقوة الأغلبية السياسية أو الطائفية، حيث سقط الرهان على تشكيل حكومة الأغلبية السياسية بشكل نهائي، ولن يسمح للمالكي بإشراك مكونات صنعية بديلة عن المكون السني الحقيقي، كما لن يسمح له بإشراك بعض الأطراف الكردية تحت عنوان الأغلبية السياسية وإقصاء الديمقراطي الكردستاني المختلف مع المشروع الإيراني، وأيضاً الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بتقسيم كردستان العراق إلى ولايات بعضها موالية لإيران وأخرى لتركيا في عملية تفتيتيةِ بما يخدم مشروعها مستقبلاً، والحل لن يكون إلا عراقياً توافقياً وبرعاية أمريكية، والدولة العراقية ستتكون من ثلاث كيانات جغرافية سياسية كأمر واقع، وعملية البدء بتنفيذ مشروع الدولة الفيدرالية الموحدة ربما بدأ فعلاً بزيارة كيري إلى العراق وكردستان، وأمريكا ستشرك إيران في ترتيب العملية السياسية لكن لن تكون الشراكة بحجم الطموح الايراني يل ستقتصر على الجزء الخاص بالمكون الشيعي من العملية وليست في مجمل الترتيبات، لأن الولايات المتحدة ليست في غفلةٍ من أمرها بخصوص المشروع الإيراني في المنطقة لذلك فهي تقبل بالشراكة الجزئية على قاعدة المصالح المتبادلة لتتخلى إيران عن دعم ورعاية المنظمات الارهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وحتى في هذه الحالة إيران لن تخسر بقدر ما يتم تحجيمها في المناطق الكردية والسنية، وسيطلب من المكون السني أن يبدأوا بفك الارتباط بشكل نهائي وقاطع مع كل التنظيمات والأحزاب التي لها علاقة بشكل أو بآخر مع تنظيم القاعدة مثل داعش أو غيرها، لأن الخطورة وكل الخطورة تكمن في أن تستحوذ هذه المنظمات على المزيد القوى البشرية والأموال الكافية لتعمل لصالح مشاريعها الخاصة بها وعندها ستخرج الأمور عن سياقاتها المرسومة لها، وعلى السنة أيضاً التخلي عن الثقافة العدائية التقليدية ضد المشروع القومي الكردي والوطني الكردستاني التي ورثوها عن عهد نظام صدام حسين، وربما يكون تواجد الزعامات العشائرية والقيادات السياسية السنية في أربيل والرسائل الموجهة من العشائر العربية إلى رئيس الاقليم تكون بداية انفتاح على واقع الحال في كردستان والقبول بعراق فيدرالي موحد يتكون من ثلاث أقاليم جغرافية سياسية، وفي هذا ربما يضطر العراقيين والأمريكان على العودة إلى اتفاق أربيل الذي أطلقه البارزاني عند تولي المالكي الولاية الثانية، والاتفاق كان يمتلك خارطة طريق شاملة للخروج من أزمة تشكيل الحكومة آنذاك من خلال مؤسسات وطنية فيدرالية مشتركة لها صلاحيات واسعة يُمَكِنها من قيادة الدولة الاتحادية بشكل مؤسساتي، ومن خلال العودة إلى تطبيق ذلك الاتفاق يمكن للعراق الفيدرالي الجديد أن يخطو خطواته الأولى وأن يكون بمثابة اللبنة الأولى في بناء مشروع الشرق الأوسط الكبير.
عضو اللجنة السياسية لحزب يكيتي الكردي في سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى