آراء

نحو اسقاط الايديولوجيا وارساء الفكر

كاوا عيسى
ان من اخطر التحديات التي تواجه الافكار والنظريات الفلسفية هي امكانية تحولها الى عقيدة متحجرة تفقد اية مرونة ممكنة لفهم الوقائع ورسم الحاضر والمستقبل، وبالتالي فان من الضرورة بمكان الا يتحول الفكر الى ايديولوجيا، وذلك سواء كان هذا الفكر يتسم بصفات الواقعية والموضوعية والمنطقية ام لا، فالايديولوجيا التي تتجاوز الحالة الانسانية الفردية والمجتمعية تفقد الفكر تأثيره الفعال في خلق استمرارية الابداع لتغيير الواقع، ولا يخفى ان الايديولوجيا هي في الاصل فكر تتحول الى عقيدة بتأثير ودفع من السلطة الحاكمة، وتقوم بتقسيم المجتمع الى مجموعتين متنافرتين، مجموعة تنتهج هذه العقيدة فتكون في المرتبة السامية في ظل هذه السلطة، ومجموعة تقف ضدها لتكتسب صفة العداوة وتكون على الدوام في محرق القهر والعنف، وتفرز هذه الممارسة السلطوية للايديولوجيا الى تقسيم في بنية المجتمع الفوقية، ما بين النخبة المثقفة، فبينما تزدهر ثقافة السلطة المؤدلجة وتفرخ العديد من الاشكال الثقافية المتناسخة والمتماثلة واحيانا كثيرة المتطابقة، تتوارى الثقافة الاخرى وتتراجع لتختفي او تعود لاحقا في اشكال عقائدية اكثر صدامية وحدة.
ان ما يميز الايديولوجيا عن الفكر هو ان المؤدلجين يطرحون عقيدتهم على انها مذهب فكري يمثل الحقيقة المطلقة ولا يمكن الجدال او النقاش حول صحتها، ولابد لجميع افراد المجتمع الخضوع لها، ان الايديولوجيا سواء كانت دينية او دنيوية تتمثل في مجموعة مبادئ ومفاهيم وقواعد اكتسبت صفة الجمود عند لحظة تاريخية معينة، تدفع بالانسان المؤمن بها الى تحجر فكري لا يهدف الى اجراء التغيير وتحقيق المزيد من العدالة والانسانية في المجتمع بقدر اندفاعه في سبيل الدفاع عن عقيدته واثبات صحتها، بحيث تصبح الايديولوجيا اهم من العلاقة مع الاخر المختلف او حتى المترقب المحايد، وبذلك تصنع الايديولوجيا فردا انطوائيا فكريا يتعذر عليه التواصل والتفاهم مع الاخرين.
ان التاريخ يكشف فصولا مروعة عن مآساة البشرية مع الايديولوجيات المختلفة، فلم تكن هناك ايديولوجيا الا وقامت بشرعنة العنف الذي خدمها، وادى ذلك على الدوام الى المزيد من القهر والدماء، وبالتالي لا تقوم الايديولوجيا بإباحة العنف وحسب وانما تبرره، وبذلك يؤكد المؤدلجون على فعالية العنف في ارساء مبادئ الواقعية السياسية عبر التاريخ، وهكذا يمكن القول ان الانسانية عانت الامرين عبر القرون الماضية بفعل الايديولوجيات التي تصارعت فيما بينها من جهة وبينها وبين الانسان العاقل الذي رفض الوقوع عبدا لها من جهة اخرى، فنكلت به بمختلف وسائل القهر بهدف اعادة النظام وتوطيد السكوت. ومن هنا نجد ان الايديولوجيا تجيز فعل الشر بهدف الخير وبالتالي فان القتل الايديولوجي مثلا لا يعتبر شرا بل وسيلة للنضال ضد الشر وبالتالي يكون خيرا من وجهة نظر اصحاب تلك العقيدة.
يتنافى الفكر مع الايديولوجيا تماما، فبينما تمثل الايديولوجيا تأكيدا دائما وقطعيا ومطلقا لعقيدة لا تقبل الشك او النقاش او الخطأ، يسعى الفكر باستمرار الى البحث عن الحقيقة بهدوء وتأني واستقلالية فردية تامة، بعكس الايديولوجيا التي تعتبر تحشيدا وتكديسا وتجميعا لبشر مستلبي الفكر، يتنازلون طوعا او كرها عن حريتهم الفكرية لعقائد لا تقبل منهم سوى السمع والطاعة، وهكذا فان الفكر هو التزام شخصي يدفع الفرد على الدوام الى الحرية في البحث والاكتشاف والارتكاز على الواقع والمنطق، وبالتالي نجد ان اكبر التحديات التي نواجهها كأفراد اولا ومجتمعات بشرية ثانيا هو قدرتنا على بناء فكر جديد على انقاض الايديولوجيات التي عصفت بالبشرية وادمتها لقرون طويلة، حتى نستطيع اعادة المعنى الحقيقي من وجودنا وخلق المزيد من الابداع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى