
نحو سوريا مدنية: من رفع العقوبات إلى بناء الدولة
نجم الدين كياض
إنّ قرار إدارة ترامب برفع كامل العقوبات – كما صُرّح به في السعودية – عن الشعب السوري يُعدّ خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، إذ أنّ المتضرر الأكبر من هذه العقوبات كان المواطن السوري العادي، لا النظام البائد ولا الحالي. ومع ذلك، فإنّ هذه الخطوة لن تكون ذات جدوى حقيقية ما لم تترافق مع إصلاحات جوهرية داخلية على مستوى مؤسسات الدولة والقوانين الناظمة لها.
تتطلّب المرحلة المقبلة تعديل جميع مفاصل الدولة، الإدارية منها والمؤسساتية، بدءاً من الإعلان الدستوري، ومروراً بالدعوة إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل، يفضي إلى تشكيل حكومة جديدة تعبّر عن تطلعات جميع السوريين، وتتماشى مع متطلبات المرحلة السياسية والاقتصادية الراهنة. هذا التغيير ضروري ليشعر المواطنون السوريون بأنهم شركاء حقيقيون في إعادة بناء الوطن والمواطن، دون إقصاء لأي جهة وطنية أو سياسية أو اجتماعية. إلى جانب ذلك، لا بدّ من فصل السلطات عن بعضها البعض، على أن يكون الضامن لهذه العملية هو الدستور والإجراءات القانونية.
بعد رفع العقوبات، ينبغي توحيد جميع الطاقات الوطنية من أجل إعادة الإعمار، ليس فقط على مستوى البنية التحتية والاقتصاد، بل – والأهم من ذلك – على مستوى إعادة بناء الفكر والعقل السوري، الذي دُمّر على مدى عقود بفعل النظام البائد والحرب المدمّرة. فإعادة بناء الإنسان السوري يجب أن تكون حجر الأساس لأي عملية إصلاح وبناء.
وعلى الحكومة الحالية، برئاسة أحمد الشرع، أن تستثمر التوافق الإقليمي والدولي، لا سيما المبادرة السعودية والخليجية، والدعم التركي، وبعض المواقف الأوروبية التي لعبت دوراً كبيراً في تخفيف ورفع العقوبات.
إنّ هذا التوافق يشكّل فرصة لا يجوز التفريط بها للمضي قدماً نحو بناء سوريا جديدة في جميع المجالات.
ومن أولى الخطوات المطلوبة أيضاً إزالة كلّ الرموز المرتبطة بالنظام السابق، الذي كان سبباً رئيسياً في تدمير المجتمع السوري وتشويه بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فحزب البعث، بنزعته الشوفينية، وحكم عائلة الأسد الاستبدادي، كانا من أبرز مسبّبات انهيار الاقتصاد السوري، وتفكيك المجتمع، وزرع الطائفية والانقسام.
لذا، من الضروري التخلص من جميع رواسب النظام السابق، سواءً في القوانين، أم في البُنى الإدارية والتنظيمية، أو في الجوانب السياسية. هذه الخطوة أساسية لبناء نظام جديد يقوم على أسس مدنية ديمقراطية، يستند إلى دستورٍ توافقي يشارك في صياغته جميع السوريين. كما يجب الابتعاد عن المحاصصة الطائفية والإثنية التي أفسدت التجربة السياسية في دول الجوار، مثل العراق ولبنان. مع تهيئة الأجواء من خلال سنّ قوانين تحدّ من الفوضى، وتسهّل عودة اللاجئين السوريين من جميع المكونات والطوائف للمشاركة في عملية البناء.
كذلك، لا بدّ من رفض النزعة القومية الضيقة، والتأكيد على أنّ سوريا وطن لكلّ السوريين، دون تمييز ديني أو قومي أو عرقي. وفي هذا السياق، يُصبح فصل الدين عن الدولة ضرورة ملحّة، ليشعر كلّ مواطن – مهما كانت عقيدته أو خلفيته – بأنه متساوٍ في الحقوق والواجبات أمام القانون.
وبذلك، يمكن بناء دولة مدنية قوية، يكون الإنسان فيها الغاية والوسيلة، وتحميه مؤسسات عصرية يحكمها دستور عادل وقانون نزيه. لا كما كان في عهد الأسد، حين استُخدمت الدولة ومؤسساتها – وخصوصاً المؤسسة العسكرية – كأداة للهيمنة والنهب وقمع المواطنين، تحت شعارات زائفة مثل “العروبة”، و”محاربة الإرهاب”، و”مقاومة الاحتلال الإسرائيلي”.
وما هو أكثر أهمية في هذا السياق، هو بناء جيش وطني من جميع السوريين، وفق المعايير الدولية في تكوين الجيوش، تكون مهمته حماية الدولة ومؤسساتها وحدودها، لا أن يكون مصدر تهديد لدول الجوار أو أداة لحماية سلطة استبدادية. يجب أن يكون الجيش في خدمة الدولة والوطن والمواطن، لا في خدمة مصالح السلطة. كما يجب تدريب عناصره على أسس وطنية، لا عقائدية، مع الابتعاد عن العقلية الجهادية والتكفيرية التي بدأت تظهر في بعض المجموعات التي تتبنى أفكاراً متطرفة، وتدّعي الانتماء إلى الدولة الأموية، وترفع شعارات متطرفة في الشوارع على مرأى ومسمع من الإعلام المحلي والعالمي، وهو ما يشكّّل خطرًا حقيقياً على بناء الدولة ومؤسساتها.
أخيراً، يجب وضع نظام صارم في هذه المرحلة لمحاسبة جميع مرتكبي الجرائم بحق المواطنين السوريين وخرق القوانين، مهما كانت جنسياتهم أو طوائفهم أو انتماءاتهم. كما يجب إنشاء منظومة أمن عام وشرطة تعتمد سيادة القانون وتطبيق العدالة على كامل الأراضي السورية.