نورالدين زازا السياسي والمثقف٭
عدنان بدرالدين
مابين 1919 تاريخ مولده في بلدة “مادن” بولاية العزيز في كردستان الشمالية، ووفاته في 1988 في لوزان بسويسرة، عاش “يوسف زيا” المعروف ب”نورالدين زازا” 69 عاما حافلة بإكتساب المعرفة، والكتابة الإبداعية، والنشاط السياسي، والعمل الأكاديمي والإعلامي، وكان ترأسه لأول حزب قومي كردي، بالمعنى الفعلي لكلمة حزب في آواخر خمسينات القرن المنصرم، ذروة سنوات من النضال الملحمي من أجل قضية الشعب الكردي، وذلك قبل أن يفتر حماسه بعد إصطدامه بالواقع السياسي والإجتماعي المزري الذي وجد نفسه أمامه وجها لوجه، وينزوي بعدها طوعا في منفاه الإختياري بسويسرة.
بالإمكان تقسيم سيرة هذا الكردي الفذ إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تبدأ من سنوات شبابه المبكر في ثلاثينات القرن المنصرم وتمتد إلى بداية سبعينات ذات القرن، وهي فترة الحماس الثوري التي يمكن تسميتها بفترة “الرومانسيةالقومية”، فيما تدشن عودته السرية إلى تركيا، ومحاولة تسوية وضعه القانوني هناك، ومن ثم هجرته إلى سويسرة وإستقراره فيها نهائيا، مرحلة أخرى مختلفة نوعيا، وبداية تحول فكري بإتجاه الواقعية السياسية، بما يعنيه إستتباعا إختيار طريق التطوير التدريجي للواقع، بدل تغييره جذريا من خلال الثورة الشاملة.
سنحت الحريات الديمقراطية النسبية التي وفرتها سلطات الإنتداب الفرنسي فرصة ل نورالدين الشاب للإنخراط مبكرا في النشاط السياسي، وهو بالمناسبة أحد دعائم الحركة الطلابية في كردستان، إن لم يكن دعامتها الأساسية، فإليه يعود الفضل في تأسيس أول جمعية طلابية كردية في سورية بإسم “جمعية هيفي” بدمشق في عام 1937، وكان من الناشطين في “نادي الشباب الكردي” في عامودة الذي تأسس في عام1938 وترأسه محمد علي شويش بمعاضده جملة من ألمع المثقفين والوطنيين الكرد آنذاك مثل جگرخوين و ملا أحمد نامي وقدري جان وأوصمان صبري ويوسف حرسان وإبراهيم متيني وغيرهم. وفي عام 1949 أسس زازا بمعية مجموعة من الطلبة الكرد الدارسين في الجامعات الأوربية من بينهم الدكتور عبدالرحمن قاسملو والدكتور عصمت شريف وانلي “جمعية الطلبة الأكراد في أوربا” وتولى رئاسة تحرير مجلتها الرسمية “دنكي كردستان”، لكن هذه الجمعية لم تعمر أكثر من سنة، وذلك إثر إنسحاب عبدالرحمن قاسملو منها، وكان ممثلها في فرنسا، بطلب من الحزب الشيوعي الإيراني “توده” الذي كان آنذاك عضوا فيه. نورالدين زازا الذي لم يكن يعرف اليأس، عاد من جديد في عام 1956 ليعيد بناء الجمعية، مع آخرين طبعا، تحت ذات الإسم. وقد ظلت هذه الجمعية أهم جسم طلابي كردي في أوربا إلى بداية التسعينات من القرن المنصرم. لكن الشاب الذكي نورالدين لم يكن مجرد ناشط سياسي فقط، بل أنه بالتلازم مع ذلك، كشف عن موهبة كتابية مميزة، وكانت كتاباته تلقى إستحسان قراء مجلتي “هاوار” و “روناهي” اللتين كان يصدرهما البدرخانيون، لدرجة أن الأمير جلادت بدرخان، وكان مثقفا موسوعيا من الطراز الرفيع، لقبه ب “تشيخوف الكرد” على قصصه القصيرة التي كان ينشرها آنذاك على صفحات المجلتين المذكورتين. ومن بين مآثره التي يجب أن نذكرها هنا هو عمله في الإذاعة الكردية التي أنشأتها سلطات الإنتداب الفرنسي في بيروت، نيابة عن الدكتور كاميران بدرخان الذي كان يديرها فعليا، وذالك في عام1944 ، أي في سن الخامسة والعشرين.
كان نورالدين زاز كردستاني النزعة، لا يقيم وزنا للحدود التي قسم بها الأعداء وطن الكرد، ولهذا سارع إلى المساهمة في ثورة كردستان العراق بزعامة مصطفى بارزاني في أربعينات القرن الماضي، لكنه إعتقل في الموصل وظل مسجونا في العراق لمدة سنة متنقلا خلالها بين سجون الموصل وبغداد والعمارة. وقد عرفته سجون سورية ولبنان والأردن أيضا، كما أنه تعرض للنفي إلى السويداء. بعد إنقلاب 1963 الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في سورية، إنتقل زازا للإقامة في بيروت حيث وضع كامل إمكاناته وعلاقاته الكثيرة مع الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية الأوروبية في خدمة الثورة الكردية في كردستان العراق.
كان زازا بشهادة الكثير من معاصرية على درجة عالية من الثقافة والخلق الرفيع، وقد إستطاع خلال الفترة الوجيزة التي ترأس فيها الحزب الديمقراطي الكردستاني/سوريا، بالإضافة إلى عمله إستاذا محاضرا بجامعة دمشق لمدة عامين، بناء علاقات قوية ومتشعبة مع النخب السياسية والثقافية العربية التي كانت تقدره وتحترمه.
کانت اللغة الكردية هم زازا الرئيسي، وكان يعتقد، وهو الحاصل على الدكتوراة في فلسفة التربية، أن إستمرار وجود الكرد كأمة مرهون بالحفاظ على لغتهم، ومن المؤسف القول أن أحفاد زازا، وخاصة في كردستان الشمالية، مسقط رأسه، لم ينفذوا وصيته. وكان يشدد في مقالاته المتأخرة التي قيض لي قراءتها في الصحف والمجلات الكردية التي كانت تصدر في أوربا في ثمانينات القرن المنصرم على وحدة الكرد وتكاتفهم، وكان الراحل الكبير يكتب للكرد، حسب إضطلاعي، فقط بالكردية، مستغلا كل مناسبة للتأكيد على ضرورة تعلم اللغة الكردية، وعلى تعليمها لأطفال الكرد بكل الوسائل المتاحة، ومن أقواله:
( أيها الكرد!
إن كنتم تبغون الإستمرار كأمة لاتندثر، فعليكم القراءة بلغتكم الأم، وتلقينها لأطفالكم.
وإن أنتم أردتم أن تفهموا ذواتكم وأن تقدموها للآخرين بطريقة تكسبون بها حبهم، وأن تعيشوا بكرامة مرفوعي الرأس، فعليكم أيضا القراءة بلغتكم الأم، وتلقينها لأطفالكم.)
بعد عودته إلى سويسرة في عام 1970 بدأ نورالدين زازا مرحلة جديدة من حياته تميزت بالتركيز على الجانب “الدعوي” التنويري، سواء من خلال الكتابة باللغات الأجنبية في الصحافة العالمية، أو عبر مخاطبة الكرد بلغتهم، بالإضافة إلى الإستمرار في حشد الدعم لحركة التحرر الكردية في سائر أجزاء كردستان. وكان الراحل الكبير قد نقل الملحمة الكردية الأشهر”ممي آلان” إلى الفرنسية، كما نشر سيرة حياته في كتاب بعنوان “حياتي الكردية” سنحت لي فرصه الإستمتاع بقراءتها باللغة البلغارية بترجمة الصديق العزيز ياشار عبدالسلام أوغلو في بداية تسعينات القرن المنصرم.
مثل كل المثقفين الكرد الحقيقيين، عاش نورالدين زازا سنواته الأخيرة في عزلة طوعية، في كفاح من أجل لقمة العيش، منسيا من الشعب الذي أحبه بكل جوارحه، ولكن، على الأرجح، مع أمل لايفارق الأفذاذ في أن الليل الدامس أبدا يتبعه الضياء.
20.10.2020
٭ نص مساهمة نشرت في ملف عن السياسي والمثقف الكردي البارز الدكتور نورالدين زازا أشرفت على تنفيذه
جريدة – القلم الجديد- لسان حال الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بالتعاون مع موقع –ولاتي مه-.