من الصحافة العالمية

هل تخلّت أميركا عن الأسد… وهل أوقفت إيران الحرب من أجله؟

عبدالوهاب بدرخان
في غضون أسبوعين، تغيّرت المعادلة الميدانية في شمال سورية لمصلحة المعارضين للنظام، وبعد إدلب وجسر الشغور، باتت الخطوة التالية المتوقعة في منطقة الساحل حيث لم يتوقف الغليان في ريف اللاذقية طوال الأعوام الماضية. وعلى رغم حصارات التجويع والبراميل المتفجّرة والقصف المتواصل، لم تكن وطأة الطوق الذي تشكّله الغوطتان حول دمشق كما هي الآن. وثمة تغيير آخر لا يقلّ خطورة سيأتي من جبهة الجنوب وتقدّم المعارضة الى درعا، التي أُخليت منشآتها الحكومية من الأثاث والوثائق.
فمع خسائر الشمال، واحتمال استكمال إخراج قوات النظام من حلب، يتركز الخطر على ما يسمّى «معقل النظام»، وهو المنطقة التي بقيت هادئة نسبياً بل إن القوى الدولية سبق وحذّرت المعارضة من التعرّض لها خشية وقوع «مذابح مذهبية». ومع ازدياد الضغط من الجنوب والغوطتين، قد لا تعود العاصمة منطقة آمنة للنظام، لذلك أكثرت أوساطه وكذلك أوساط إيرانية أخيراً الكلام عن نقلٍ أو انتقالٍ ما لقيادة النظام الى طرطوس، ما أوحى بأن الفكرة قيد التداول، ومن مؤشراتها حصول حركة نقل لعائلات الضباط الى المدينة الساحلية.
طوال الفترة الأخيرة، كان السؤال الأكثر إلحاحاً وغموضاً: أين إيران من الهزائم التي يراكمها حليفها في سورية؟ ففي أواخر شباط (فبراير) – أوائل آذار (مارس)، لم يُسجَّل للإيرانيين أي إنجاز سوى إرسال حملة الى الجنوب لاستعادة المواقع التي تسيطر عليها المعارضة حول درعا، ولكنهم اضطروا الى التخلّي عن هذا المشروع الذي انتهى بخسائر كبيرة لـ «حزب الله»، لكنه انتهى خصوصاً بـ «مجزرة الأفغان» الذين وُضعوا في الخط الأمامي للهجوم. بعد ذلك، لم يُسمَع عن الإيرانيين سوى أنهم السبب المعلن لبداية التخلّص من رستم غزالي، رئيس «شعبة الأمن السياسي»، أولاً بضربه و «فسخه» وصولاً الى موته المبرمج. وعدا سعي غزالي الى التحدث عبر قناة «المستقبل» اللبنانية لتوضيح دوره في قضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، كان بعض الشهود أبلغ المحكمة الدولية الخاصة أن غزالي تقاضى أموالاً من الحريري، وهو علّق على ذلك بقوله: لست الوحيد، وأعرف جميع من تلقوا أموالاً. وقد يكون الإيرانيون أيضاً سبباً غير معلن للتخلّص من علي مملوك، رئيس «مكتب الأمن الوطني»، الذي تعرّض بدوره لـ «وعكة صحية»، إذ يقال الآن إن لمملوك اتصالات مع تركيا خصوصاً منذ مهمة قادته قبل أسابيع الى الحسكة. واستناداً الى الجلسات الخاصة جداً للضبّاط القريبين من النظام، فإن الضيق من تسلّط الإيرانيين على القرارات والتوجّهات بلغ ذروته، لكن أحداً لا يجرؤ على مواجهتهم أو انتقادهم علناً.
وبعدما تكرر طرح السؤال: أين إيران، حتى في بعض أوساط «حزب الله» التي وجدت في خطب أمينه العام حسن نصرالله، عن اليمن بداية تفسير لموقف طهران. أي أن أولويتها انجذبت الى التحدي الأول من نوعه الذي تتعرّض له منذ بدأت انسلالاتها في بلدان المحيط العربي. وعندما أوفد النظام وزير دفاعه فهد جاسم الفريج، الى إيران، كان إعلام «حزب الله» أكثر من سلّط الأضواء على هذه الزيارة التي فُهِمَت على نطاق واسع على أنها «استغاثة» ومحاولة لفهم ما يجري في عقل الحليف الأول. وقالت وكالة «سانا» أن الفريج «تلقى وعوداً باستمرار الدعم». والواقع أن الإيرانيين لم يعودوا مقتنعين بجدوى أي دعم. صحيح أنهم لا يزالون متمسكين بالنظام، إلا أنهم مضطرّون الى الاعتراف بأن النظام بات عاجزاً عن تأهيل نفسه، وبأنهم لم يتمكّنوا من إعادة تسويقه حتى في إطار المشاركة في «الحرب على داعش». وفي كل المواقف مما يجري في سورية، كان واضحاً أن طهران ودمشق معنيّتان فقط بالحل العسكري للأزمة، ولم تتوقعا يوماً أن تضطرا الى مواجهة استحقاقات أي حل سياسي يتطلّب تنازلات. ولم يكن هناك ما يقلقهما، لا المعارضة المقاتلة التي أنزلا فيها هزائم، ولا أحوال العرب في الإقليم.
لم يعد سراً أن وراء هذه التطوّرات تغيّراً أساسياً في المناخ الإقليمي، سواء منذ بداية «عاصفة الحزم» في اليمن، أو الانعكاسات المتوقعة لاتفاق نووي تريده إيران تتويجاً لتوسّعها في «تصدير الثورة»، والقيام باختراقات في العالم العربي. وبات الوضع المستجد في سورية نتيجة طبيعية للحال التي أشاعتها «عاصفة الحزم»، كما لو أنه الخطة الموازية، والمكمّلة، لما يحصل في اليمن. فعندما تبلورت الظروف للتعاون والتنسيق، عاودت القوى الإقليمية الاستثمار في قوات المعارضة السورية، فوفّرت لها الإمكانات لتصنع الفارق بعد شهور طويلة من العجز والإحباط، وعندما تخلّت الولايات المتحدة للمرة الأولى عن تردّدها، رافعةً جزئياً «الفيتو» عن تسليح نوعي ولو محدود لبعض المعارضة، وجدت أن واقعاً جديداً يرتسم في سورية.
يُذكر أن واشنطن كانت ردّدت مراراً، أن الحل السياسي يستلزم تغيير «المعادلة الميدانية»، وأنه يجب الضغط على النظام لإجباره على «مراجعة حساباته». لكن، يبدو أن واشنطن اضطرّت أخيراً الى التخلّي عن سلبيّتها بعدما لمست تصميماً وإصراراً من جانب السعودية وتركيا وقطر على ثلاثة توجّهات: 1- إن الشراكة مع أميركا في الحرب على الإرهاب لا معنى لها من دون التصدّي لضلوع النظامين الإيراني والسوري في هذا الإرهاب. 2- ضرورة التصدّي، مع أميركا، من دون بلوغ محاربة «داعش» في سورية، أمر واقع فرضه الإيرانيون في العراق، وهو الاعتماد على وحدات من الجيش والميليشيات الشيعية التي ارتكبت انتهاكات وجرائم في محافظتي ديالى وصلاح الدين، وفي الحال السورية عمل الإيرانيون على حصر الخيار ضد «داعش» بالميليشيات التي يستقدمونها، فضلاً عن قوات نظام بشار الأسد. 3- إن محاولات استدراج النظام الى «حل سياسي» تعثّرت في جنيف، وفشلت في لقاءات موسكو، بسبب تعويل إيران ونظام الأسد على انتصارات عسكرية حققاها لاستكمال «الحل العسكري» وإلحاق هزيمة نهائية بالمعارضة، لذلك وجب تصحيح الوضع العسكري للمعارضة، أولاً بتوحيد ما أمكن من الفصائل المقاتلة المعروفة وتنظيم قدراتها، ثم ربطها بغرف عمليات موحّدة، ومدّها بأسلحة نوعية، لتمكينها من المبادرة الى إخراج قوات النظام من مواقع استطاعت الاحتفاظ بها طوال أربعة أعوام.
وعلى رغم أن أي جهة لم توضّح ما هي التفاهمات التي قادت هذا التغيير الميداني أو سقفه وحدوده، إلا أن مصادر كثيرة التقطت عبارة لباراك أوباما في حديثه الى «نيويورك تايمز» (06/04/2015)، واعتبروها إشارة الى توجّه أميركي مختلف، إذ تساءل عما «يمنع العرب من مكافحة الانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان (في سورية) أو ما فعله الأسد». هنا سيصرخ كثر، أميركيون وعرب، أن ما أو مَن «منعهم» هو أوباما نفسه، وهناك شهود من داخل إدارته. أما وقد أصبحت هناك إرادة عربية لفعل شيء، فإن أوباما لم يعد يمانع. وبعد هزائم الشمال والجنوب، لعلها المرّة الأولى التي يقلق فيها الأسد، مستشعراً أن «أميركا تغيّرت»، خصوصاً بعد إغارة «طائرات مجهولة» على الألوية النظامية 199 و92 و65 في جبال القلمون (أواخر نيسان (أبريل) الماضي)، ومقابلتها بتجاهل تام من جانب إعلام النظام وإيران و «حزب الله».
مع ذلك، لا تزال هناك خطوط حمر على المعارضة، وهي معروفة: عدم إسقاط النظام عسكرياً، عدم التعرّض لمناطق العلويين في الساحل، عدم التسبب بانهيار الدولة ومؤسساتها. واقعياً، لم تعد «الدولة» و «المؤسسات» سوى أجسام شبحية فارغة، والجميع متيقّن بأن النظام يفيد من الخطوط الحمر هذه ليتابع القصف بالصواريخ البالستية ورمي البراميل المتفجّرة حتى فوق رياض الأطفال، وبالتالي تجاوز كل الخطوط الحمر باستئناف استخدام السلاح الكيماوي. لم يسبق للنظام أن انتهز أي انتصارات عسكرية للتقدّم بمبادرة سياسية، ولم يبدِ استعداداً للمجيء الى تفاوض على «مرحلة انتقالية»، كما أن أوضاعه المتراجعة راهناً لم تدفعه بعد الى التلويح بتنازلات مع أن أنصاره المباشرين بدأوا أخيراً يوجّهون إليه نداءات علنية تطالبه بالإسراع الى «حل سياسي».
 
الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى