هل سيكرر المكون العلوي في سوريا نفس خطأ المكون العربي السني في العراق ؟
شاهين أحمد
سوريا والعراق بلدان متجاوران جغرافياً ، وقبل مائة عام تقريباً كانا جزءاً من الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية السنية مثل بقية دول المنطقة ،وهما أيضاً من منتجات الاتفاقيات الدولية بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وخاصة سايكس – بيكو، ومتشابهان من حيث التنوع القومي والديني والمذهبي . مناسبة الخوض في هذا الموضوع هو مايجري من مناقشات دستورية في جنيف لإنجاز اختراق في العملية السياسية المتعثرة ، وخاصة أن البنود التي تم إدراجها في جدول أعمال الجولة السابعة والمتعلقة بالمبادئ السياسية الأساسية مثل هوية الدولة وإسمها وشكلها ورموزها وطبيعة نظام الحكم فيها ليست هامة ومصيرية فحسب بل ستكون لها تأثير على الاستحقاقات الأساسية المتعلقة بوجود وحقوق مكونات الشعب السوري المختلفة والعلاقة بين الدين والدولة …إلخ. ونظراً لأن نظام البعث الحاكم في سوريا محسوب على الطائفة العلوية الكريمة، وأن كل ماارتكبه النظام من جرائم بحق الشعب السوري يُحمل في جانب منه ” زوراً “على الطائفة العلوية وخاصة بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية الثورية منذ أكثر من 11 عاماً، ونجاح النظام بالتعاون مع بعض أجنحة الأسلمة السياسية في حرف الثورة وجرها إلى مستنقع العسكرة وإدخالها حقول الطائفية المقيتة، وما ترتب على ذلك من رد فعل سلبي دفع بأبناء الطائفة العلوية وكذلك غالبية المسيحيين للوقوف إلى جانب النظام. وكي نكون صريحين أكثر ،هناك شرائح واسعة من المكون العربي السني الكريم – نظراً لحجم المجازر التي ارتكبها النظام بحق السوريين عامةً والمكون العربي السني بصورةٍ خاصة – تعتبر أن الجرائم التي ارتكبها النظام يتحمل مسؤوليتها بشكل مباشر الطائفة العلوية التي دفعت هي الأخرى ثمناً باهظاً من دماء أبناءها وممتلكاتها في هذه الحرب المجنونة التي دمرت سوريا وهجرت خيرة شبابها وفعالياتها الاقتصادية والعلمية وقسمت نسيجها المجتمعي وراكمت الأحقاد ونشرت الكراهية بشكل مخيف . وما يهمنا في هذه العجالة هو مايتعلق بمستقبل سوريا، لأنه مهما طالت الأزمة فلا بد أن يأتي اليوم الذي تنتهي فيه الحرب وتوضع أسس إعادة إنتاج الدولة السورية الجديدة، وبالتالي على جميع السوريين ونخبهم الاستعداد الكامل للبحث والتفكير بطريقة مختلفة لإيجاد مشتركات وتوافقات من شأنها توليد أفكار تخدم عملية الخروج من الأزمة والتأسيس لإقامة البديل الوطني الديمقراطي لجميع السوريين وبجميع السوريين . ومن هنا على النخب الواعية لمكونات الشعب السوري بشكل عام وتلك المنتمية للطائفة العلوية بصورة خاصة الخروج من تلك القوقعة التي صممها نظام البعث طوال ستة عقود، لأن المستقبل سيكون مختلفاً تماماً، وأن هذا النظام قد إنتهى صلاحيته وأصبح جزءاً من الماضي، وعبارة عن أداة لإدارة الأزمة مؤقتاً لحين التوافق بين كبار المتدخلين في الميدان السوري. ولكن بكل أسف ماهو ملاحظ أن النخب المنتمية للطائفة العلوية السورية الكريمة مازالوا متمسكين بنظام البعث بكل شخوصه ورموزه ومرتكزاته الفكرية والسياسية والعسكرية والأمنية ومتقوقعين في تلك الحصون التي رسمها البعث وعززتها أجنحة الأسلمة السياسية الراديكالية ،بعيدين تماماً عن كل مايتعلق بمستقبل سوريا المختلف عن حقبة البعث . وهنا يجد المرء نفسه في مواجهة السؤال الأساسي الذي يشكل محور هذه المساهمة :
هل سيكرر المكون العلوي في سوريا نفس الخطأ الذي وقع فيه المكون العربي السني في العراق بعد سقوط نظام البعث في بغداد ؟
نتذكر جميعاً بأن العراق عاش في ظل البعث حقبة مماثلة تماماً لسوريا، حيث كان البعث العراقي الذي هو امتداد للبعث السوري متمسكاً بكامل مفاصل ومقدرات الدولة والمجتمع ، وأفرز طائفية سياسية مشابهة لتلك التي في سوريا وإنما بهوية سنية كحاضنة للدكتاتورية التي دمرت العراق وألحقت أضراراً جسيمة بكامل المنطقة. ومعلوم أن منظومة البعث العراقي سيطر عليها العرب السنة الذين يشكلون أقلية عددية مقارنة بالشيعة العرب، وحكموا العراق من خلال حزب البعث الذي شارك في أول حكومة بعد ثورة 14 تموز 1958التي قادها عبد الكريم قاسم، ومن ثم سيطر على الحكم بدايةً لمدة قصيرة قرابة ثمانية أشهر من 8 /2/ 1963 حتى 18 تشرين الثاني من العام نفسه، وعاد ثانيةً إلى الحكم بعد انقلاب 17 تموز 1968، وبقي مسيطراً حتى 9 نيسان من عام 2003 حيث سقوط النظام البائد. وعقب عملية تحرير العراق من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وما رافقتها من انتقامات وعمليات ثأر ومن ثم اجتثاث للبعث وحل للجيش والأمن وخسارة الطائفة السنية التي كانت حاكمة لقوتها وسلطتها ومكاسبها، وتغييب قياداتها عن المشهد الجديد، وظهور نسخة جديدة لمنظومة حكم مختلفة عن تلك التي حكمت لعقود. ولكن المؤسف أن كل تلك التحولات لم تغير في البداية في طبيعة ونمط تفكير نخب المكون العربي السني في العراق الذين ركبوا رأسهم وبقوا أسرى أوهامهم من أيام حكم صدام وبطولاته الخلبية، حيث رفضوا مقترح القيادة الكوردية المتعلق بضرورة ترك الأحلام للتاريخ، وقراءة المشهد الجديد بواقعية، والمطالبة بوجود اقليم للسنة على غرار اقليم كوردستان، ولكن المفارقة أنهم – العرب السنة – ليس فقط لم يأخذوا بنصيحة القيادة الكوردية فحسب بل رفضوا الفدرالية الكوردية أيضا!. ودفعوا ثمن تلك الأوهام، وعانوا التهميش بسلاح الأغلبية الشيعية بعد أن تم تدمير حواضرهم وتهجيرهم . لأن الأغلبية الشيعية التي تعرضت للتهميش والظلم من قبل نظام صدام سيطرت على الحكم في بغداد ومن خلال صناديق الانتخاب ومارست الإقصاء والتهميش بحق بقية المكونات . ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن العلويين الذين يحكمون سوريا من خلال حزب البعث هم أيضاً أقلية عددية مقارنة بالعرب السنة في سوريا حيث فرضوا قبضتهم على حزب البعث والذي هو بالأساس نتاج دمج حركة البعث العربي بقيادة ميشيل عفلق و صلاح البيطار، والبعث العربي بقيادة زكي الأرسوزي، وذلك بتاريخ 7 نيسان 1947 تحت مسمى حزب البعث العربي، واندماجه لاحقاً مع الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني في عام 1952 ليشكلا معاً حزب البعث العربي الاشتراكي . هذا الحزب الذي سيطر على الحكم في سوريا من خلال انقلاب عسكري بتاريخ 8 آذار 1963 ومازال متمسكاً بما تبقى من سوريا المدمرة والمقسمة فعلياً بين المتدخلين فيها بالرغم من كل العواصف والخلافات الداخلية بين الحرس القديم والجديد منذ تأسيسه وحتى اليوم وخاصة في منتصف الستينات ” صلاح جديد – حافظ الأسد ” وبداية السبعينات ” حافظ الأسد “. وبالتالي تجربة سنة العراق قد تتكرر في سوريا حيث مازالت نخب المكون العلوي سابحة في بحرٍ من الأوهام وغير مهتمة بكل مايتعلق بمايجري من صياغات دستورية لإيجاد صيغة جديدة لحمايتهم من سلاح الأغلبية السنية الحتمي مستقبلاً. لأن التجربة العراقية المذكورة ” قد ” تتكرر في سوريا، فور حصول توافقات دولية بين مصالح الكبار، والتغيير المؤكد من خلال صناديق الانتخاب التي ستؤدي إلى فوز المكون السني بالأغلبية الساحقة من نواب البرلمان وبالتالي سيطرته على الحكومة ومؤسساتها السياسية والتشريعية والتنفيذية والعسكرية والأمنية …إلخ . ونظراً للأحقاد التي زرعت وخاصة خلال مرحلة الأزمة الدموية، قد تكون هناك انتقامات وانتهاكات واسعة بدون أدنى شك لذلك وتجنباً لتكرار ماحصل لسنة العراق مع المكون العلوي في سوريا على النخب المنتمية للمكون المذكور أن تتحرر من الأوهام وتفكر بشكل جدي في الضوابط والضمانات الدستورية التي من شأنها حماية مكونهم والحفاظ على حقوقه في سوريا المستقبل . وليس من مصلحتهم إطلاقاً التمسك بالنظام المنتهي صلاحيته ولا بالهوية العروبية التي ألبسها البعث على سوريا رغماً عن إرادة مكوناتها الأصيلة، ولابشكل الدولة المركزية وطبيعة نظام الحكم الشمولي فيها. وإنما مصلحتهم تكمن في البحث عن المشتركات الوطنية مع ممثلي ونخب كل مكونات الشعب السوري، وهنا ونظراً لفشل النماذج والخيارات التي جربها البعث الشوفيني أو تلك التي تبتدعها وتروج لها أجنحة الأسلمة السياسية المختلفة، لذلك ليس أمام تلك النخب وكذلك جميع السوريين إلا التلاقي والاتفاق على الفدرالية القائمة على التوافقية كـ خيار وحيد وواقعي للحفاظ على سوريا موحدة ومستقرة . ومن أجل طي صفحة الذكريات المؤلمة وخاصة بعد كل هذا الدمار، لابد من البحث عن السبل الكفيلة لتحقيق مطالب الشعب السوري المشروعة،والتخلص من الاستبداد والدكتاتورية، وإنهاء كافة أنواع الاحتلالات المقنعة والمباشرة،من خلال مشروع وطني سوري تغييري شامل لإعادة إنتاج الدولة السورية على أسس جديدة أركانها الشراكة والتوافق والتوازن، وإقامة البديل الوطني الديمقراطي المعتمد على المساواة التامة بين جميع المواطنين ومراعاة خصوصيات جميع مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية ، وضمان صيانة هذه الخصوصيات في إطار وحدة سوريا وسيادتها لأن التاريخ لن يعود إلى الوراء . ونظراً لفشل مختلف المسارات التي هدفت ولو شكلاً لإيجاد مخارج للأزمة فإن المسار الوحيد هو المبادرة من قبل نخب مختلف مكونات الشعب السوري وطرح جملة مبادىء على الرأي العام والمهتمين من أبناء الشعب السوري المكلوم والمعني أولاً وأخيراً بمستقبله ومستقبل بلده كي يكون مختلفاً تماماً عن حقبة البعث ، والإعلان عن ضرورة البحث عن صيغة تضمن مشاركة الجميع في بناء الوطن وقيادته والمشاركة في إدارته وثروته . ومن الأهمية بمكان هنا أن الشكل الاتحادي ( الفدرالي ) على أساس جغرافي مع الأخذ بعين الاعتبار التوزع المكوناتي ، يعتبر المخرج الواقعي الوحيد للحفاظ على سوريا موحدة ومستقرة . وذلك بتقسيم سوريا إلى عدة أقاليم جغرافية ترتبط بالعاصمة الاتحادية دمشق من خلال ضوابط دستورية،وتوزيع السلطة والثروة وفق آليات تتناسب ومختلف المواقع الجغرافية والنسب السكانية وكذلك الحاجات الاستثنائية جراء الغبن الذي لحق ببعض الأقاليم، وتعويض المتضررين من سياسات حقبة البعث . ومن الضرورة بمكان التخلص من الانطوائية والانعزالية، وإعلان القطيعة مع المشاريع الوهمية الفوق وطنية، والسير وفق رؤية واقعية تأخذ بعين الاعتبار اللوحة السورية كما هي، وعدم الاستسلام للواقع المزري والمشهد المأساوي الذي وصلت إليه الامور في بلدنا.
خلاصة القول
من الضرورة بمكان أن يضمن الدستور السوري المستقبلي مواد فوق دستورية ضامنة لحقوق جميع مكونات الشعب السوري من عرب وكورد وسريان – آشوريين وتركمان وعلويين ودروز …إلخ ، ووفق ضوابط واضحة، لقطع الطريق على أية محاولة من جانب المكون ذي الأغلبية العددية والتي من شأنها حرمان المكونات الأقل عدداً من استحقاقاتها ، وبيان آليات العمل الديمقراطي وفق مبدأ التوافق الذي يناسب مجتمعاتنا المتنوعة قومياً ودينياً ومذهبياً، لإفساح المجال لمشاركة الجميع في عملية البناء والإدارة والحكم، وهنا من الأهمية أيضاً أن نشير إلى أن البرلمان السوري المستقبلي يجب أن يتكون من غرفتين أو مجلسين. مجلس للمكونات تتخذ فيه القرارات بالتوافق وتناط به صلاحيات القرارات المصيرية داخلياً وخارجياً، ومجلس لنواب الشعب على أساس النسبة لكل مكون وكل منطقة، ويعود إليه صلاحية التشريعات .وإذا أردنا الاستقرار لبلدنا فنحن محكومون بالنموذج الملبي لطموحات شعبنا والمتمثل في الديمقراطية التوافقية الناتج عن ضرورات تمليها تركيبة مجتمعنا المتنوع قومياً ودينياً ومذهبياً. وهذا التنوع ليس عيباً أو بدعة أوضعفاً أو تآمراً من أحد كما يفسره أصحاب الذهنية الشوفينية إنما هو واقع نعيشه، وقدرٌ نؤمن به، وعامل إغناء وقوة وفخر لنا جميعاً، كون سوريا حالها حال بقية دول المنطقة تم رسمها وتصميم حدودها الإدارية والسياسية من قبل القوى الدولية ووفق مصالحها ورغماً عن إرادة مكونات الشعب السوري، وبالتالي البحث عن مساحة جامعة للمشتركات الوطنية ومن خلال مشروع وطني تغييري شامل لإعادة إنتاج الدولة السورية ،وإنهاء كافة أنواع الاحتلالات المقنعة والمباشرة ، واعتماد النموذج الديمقراطي التوافقي الليبرالي المسنود على اللامركزية السياسية ربما يشكل الخيار الوحيد أمام السوريين للمشاركة العادلة في الحكم والإدارة والحفاظ على بقاء البلد موحداً ومستقراً .