هل فعلا الديمقراطية هي الحل؟
كفاح محمود
عاشت بعض ممالك الشرق الأوسط منذ تأسيسها وحتى بدء عصر الانقلابات العسكرية فيها، نوعا ما من الهدوء والاستقرار وممارسة نمط من النظم السياسية تفوح منه أحيانا رائحة الديمقراطية المتعلقة حصريا بانتخابات البرلمانات أو البلديات أو مجالس الشورى، لكن ذلك الهدوء والاستقرار النسبي لم يدم طويلا، حيث بدأت مجموعات من الضباط أطلقت على نفسها تسميات عديدة كان أبرزها الضباط الأحرار وفيما بعد ذلك بمجالس قيادة الثورة، سواء في مصر أو العراق أو ليبيا ومن شابههم من أنظمة جمهورية، بالانقلاب العسكري وتغيير النظام الملكي إلى جمهوري مع إكسسوارات الاشتراكية والديمقراطية التي مورست جميعها بأشكال من النظم والنظريات متأرجحة بين الاشتراكية والديمقراطية الشعبية أو المركزية، والمفصلة على مقاسات القائد الملهم والرئيس الضرورة وملك ملوك أفريقيا وأحزابهم التي ادعى الزعماء بأنها تحمل رسالة مقدسة إلى الشعوب!
هذه التمثيليات الديمقراطية التي كانت الأنظمة السابقة تمثلها على مسرح الدكتاتوريات الشرقية عموما، سواء هنا في العراق ومسرحنا الكبير منذ أكثر من خمسين عاما، أو بقية الجمهوريات الثورية على إيقاع ما كان يسمى بالمجلس الوطني أو مجلس الشعب أو اللجان الثورية، وما يتبعها من ممارسات انتخاب القائد أو ما كان يطلق عليها بالبيعة ونسبها المعروفة 99.99 عاشتها شعوب هذه المنطقة من دول الشرق الأوسط والتي ضربتها عواصف تسونامي والتغيير الأهوج، بالاحتلال مباشرة كما حصل في كل من افغانستان والعراق أو بواسطة التحسس النائي كما في ليبيا وسوريا أو عن طريق وسائل الإعلام ذات الفولتية العالية جدا كما في تونس ومصر واليمن.
ودعونا الآن نرحل قليلا إلى ما كان يحلم به ويعمل من أجله ملايين من خيرة أبناء وبنات هذه الدول من كل الشرائح والطبقات، ألا وهو إقامة نظام سياسي متوازن يعتمد التداول السلمي للسلطة على أساس دستور عصري وحضاري يليق بإنسان الألفية الثالثة، يمنع التفرد بالسلطة والقرار، ويشيع حضارة حقوق الإنسان وقبول الآخر، ويتيح حرية الاختيار دونما أي شكل من أشكال الاحتواء أو الاستغلال الديني أو المذهبي أو العرقي، لكن ما حصل أثار أسئلة غاية في الألم والإحباط، والسؤال الأكثر إيلاما بعد ما حصل خلال هو: هل إن مجرد تغيير الهياكل الإدارية للأنظمة السياسية ستتيح فرصة للانتقال إلى نظام اجتماعي وسياسي كما كنا نطمح إليه؟
ما يحدث الآن بعد سقوط تلك الأنظمة ورغم استخدام آليات التداول السلمي للسلطة إلا إن العملية برمتها تتعرض لكوابح لا تختلف عن تلك التي كانت تستخدم من قبل الأنظمة الشمولية في السيطرة والقيادة للرأي والتمثيل الشعبي أيام مجالس الشعب وبرلمانات تلك الأنظمة الاستبدادية، وهذه الكوابح ربما أكثر خطورة وإلغاء للرأي الشخصي الحر وحرية التعبير وتشويههما، حيث تتكثف حول الأعمدة العقائدية الدينية أو المذهبية (الفتاوى) وفي أوجه أخرى عرقية عنصرية تهبط أكثر إلى الانتماء العشائري، ومن ثم إلغاء أي نوع من أنواع السلوك المدني الجمعي الذي يبلور مفهوما للمواطنة التي يفترض أن تكون معيارا للتمثيل الشعبي في مجتمعات متعددة التكوينات العرقية والدينية والمذهبية، هذا إضافة إلى نسبة الأمية المتصاعدة بشكل مخيف والإحباط الكبير الذي أنتجته عملية سقوط تلك الأنظمة من تدمير للبلدان وخاصة للأمن والسلم الاجتماعيين في مجتمعات بدوية وقروية ما تزال مشوشة الانتماء إلى موروثاتها وما تكلس في سلوكياتها عبر حقب زمنية ليست قصيرة وبين معطيات جديدة وفرتها عملية اختراق حاجز الخوف من جمهوريات الرعب!
وعلى ضوء ذلك وفي الضفة الثانية بعد اختراق ضفة الخوف والرعب ماذا جرى وماذا يجري من هرج ومرج وفوضى أطلقوا عليها صفة الخلاقة، الآن وفي برلمانات ما بعد الدكتاتوريات التي أسقطتها الولايات المتحدة والتحالف الدولي، التي تحبو باتجاه تأسيس دول للمواطنة تقوم على أعمدة الديمقراطية الغربية، في مجتمعات شرقية تؤمن أساسا في بنيتها التربوية والاجتماعية بحكم الفرد وسلطته، إبتداءا من الأب ومرورا بشيخ العشيرة وإمام الجامع ومختار القرية والزعيم الأوحد، المتجلي في رمز الأمة والمأخوذ من موروث مئات السنين أو آلافها بشخص عنترة بن الشداد أو أبو زيد الهلالي أو الزعيم الأوحد أو ملك ملوك إفريقيا أو القائد الضرورة أو سلطان زمانه، حيث أدمنت معظم هذه الأنظمة وأحزابهم (التاريخية) برلمانات من نمط (اموافج- موافق) كناية للتبعية المطلقة والتأييد الأعمى لرأي القائد، كونه يمتلك سلطة لا متناهية، ولا أحد في الأرض يفهم مثله، وعليه فأنه دائما على حق ويمتلك مفاتيح مستقبل وسعادة الأهالي!
وعلى هذه الأسس تم تكوين برلماناتهم والية انتخاب أعضائها، حيث يتذكر العراقيون والسوريون والليبيون واليمنيون والمصريون، وحتى إخواننا في الجيرة أهل إيران وتركيا وبقية الشعوب المبتلاة بثقافة الشرق المريض، كيفية ترشيح ودعم أي عضو لكي يجلس على كرسي (اموافج) بالبرلمان، حتى وان كان معارضا، فهو مطبوخ في مطبخ القائد وقيادة حزبه ومخابراته، ولكي لا نشتت انتباه القارئ سنتحدث عن النموذج العراقي سابقا ولاحقا، في إيصال هؤلاء الأشخاص، إلى تلك الكراسي في زمن الرئيس المعدوم صدام حسين ومن سبقه من قادة العراق المعدومين في الغالب، إلا من سقطت طائرته أو أرسل على عجل إلى عاصمة للسياحة والاصطياف، حيث يتم تبليغ منظمات الحزب والشيوخ وأعمدة القوم لتوجيه أتباعهم لانتخاب شخص معين لكونه مرشح الحزب أو القائد، وبهذه الطريقة يصل هؤلاء الأصنام إلى كراسي المغفلين في ما يسمى بالبرلمان.
واليوم بعد أن أزالت الولايات المتحدة وحلفائها هياكل تلك الأنظمة الشمولية، مدعية أنها تعمل من اجل إقامة نظم ديمقراطية على أنقاض تلك الخرائب، دونما إدراك للكم الهائل من الموروثات التربوية والاجتماعية والعقائدية والسياسية، في مجتمعات تعاني أصلا من الأمية بشطريها الأبجدي والحضاري، وما تزال تعتبر القبيلة والعشيرة ورموزها أهم ألف مرة من الشعب والدولة، وكذا الحال بالنسبة للدين والمذهب، اللذان لا ينافسهما أي انتماء، والغريب انها لم تدرك كيف ستكون مؤسساتها الدستورية والديمقراطية والية انتخاب أعضائها؟
ما حصل عندنا في العراق وبالتأكيد هو ذاته في ليبيا أو سوريا لاحقا أو مصر واليمن وبقية دول المختبر الديمقراطي، هو نفسه الذي كان يستخدم من قبل الزعماء وأحزابهم العظيمة، حيث يتم تجييش القبائل والعشائر والرموز الدينية والمذهبية، وبتمويل من الكتل والأحزاب، لإيصال مجموعة من الأصنام إلى قبة البرلمان مقابل امتيازات مالية، وهذا ما حصل فعلا منذ 2005 ولحد آخر انتخابات في العراق بشقيه الاتحادي والإقليمي، حيث يذهب إلى تلك المقاعد مجاميع من الأشخاص الذين يدعمهم الحزب أو الكتلة بإسناد عشائري وديني أو مذهبي يذيب شخصية المرشح، بحيث لو انه تجرأ وترشح بنفسه دونما دعم لتلك المؤسسات، لما حصل إلا على أصوات عائلته وبعض أقربائه!؟
واليوم يجلس على كراسي (اموافج) مجاميع تمثل واحدة من أفشل دول العالم، وأكثرها بؤسا وتعاسة وفقدانا للأمن والسلم وأي مظاهر للتقدم والازدهار، حيث يستخدمون في آليات الترشيح والانتخاب ذات الآلية التي كان يستخدمها عرابوهم في الأنظمة السابقة، بالاعتماد الكلي على العشيرة والدين والمذهب والحزب أو الكتلة، ويمارسون ثقافة (اموافج) وإن اختلفت المواقع والعناوين، وبغياب المواطنة والانتماء الوطني وسيادة الانتماء القبلي والديني المذهبي، أصبحت برلماناتنا مسارح لتمثيليات بائسة وسيرك غجري ساذج!
وإزاء ذلك كله يبقى السؤال الأكثر إلحاحا هل إننا أصبحنا بمستوى ممارسة الديمقراطية؟ وهل هي فعلا علاج أمراضنا المزمنة والمتكلسة؟ أم علينا أن نبحث عن علاجات أخرى نداوي بها جراحاتنا قبل ولوج عالم صناديق الاقتراع ومن يمثل الأهالي وأي أهالي نمثلهم، بعيدا عن تأثيرات رجال الدين والمذهب وشيوخ العشائر وأغواتها الذين يحركون بوصلة تمثيل الأهالي في العشير والمذهب والدين وهم الغالبون!؟
وحتى يتم ذلك يستوجب إعادة النظر في جميع مناهج التربية والتعليم، من البيت إلى المدرسة إلى الجامع أو الكنيسة، لكي نستطيع تحويل التلميذ من وعاء يتم تعبئته بالمعلومات الببغائية إلى ناقد وسائل ومتفاعل، ومن إنسان ينتمي إلى قرية أو مدينة أو قومية أو دين إلى مواطن ينتمي إلى وطن وشعب دونما فوارق! حينها يمكن لهذا المواطن أن يختار وينتخب شكل النظام ووسيلة الحكم وهيئاته التشريعية والتنفيذية باطمئنان وأمان على حاضر ومستقبل شعبه ودولته.
مدونات الجزيرة