هل يخسر حزب العمال الساحة الكوردية؟ (1/2)
جان كورد
إن محاولة فرض آيديولوجيات لا تتناسب مع ثقافة شعبٍ من الشعوب قد تكون كارثية، فلننظر كم ارتكب الشيوعيون في القرن العشرين من مجازر كبيرة تحت اسم التطهير الطبقي في روسيا وباسم الثورة الثقافية في الصين وفي مختلف بلدان جنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية بالسياسات الخاطئة التي كان الهدف منها تغيير الروح الثقافية للشعوب، وكيف فشلت الشيوعية فيما بعد فشلاً ذريعاً في أقل من قرنٍ من الزمن، في كل مكان تقريباً، وما بقاؤها في بلاد الصين، مع تآكلٍ وتراجع، بل وتعارض في العديد من المدن العظيمة هناك مع نظام الاقتصاد الشيوعي، إلاّ بحد السيف، والشعوب لا تستسلم للسيوف مهما كانت ظالمة وحادة. والاقتصاد الصيني الذي تنتشر فيه أفكار وأساليب الاقتصاد الحر ستقضي على آيديولوجية النظام، لتنضم بعده تلك البلاد الشاسعة للنظام العالمي الحر، شاء الشيوعيون أم أبوا.
وهكذا نجد مذهب “ولي الفقيه” في إيران لا يستمر إلا بحبل المشنقة، والشارع الإيراني يغلي كرهاً وحقداً على ملالي طهران وقم الذين يحاولون فرض عقيدةٍ لا يريدها الفرس الذين لهم تاريخ حضاري عريق، وتراث كبير من ثقافة وتجارة وفنون لا يمكن التضحية بها كلها من أجل استمرار خرافة “ولي الفقيه” التي لا يقبلها عقل ولا دين. إن حكومة طهران تقوم بالإعدامات اليومية وزج المواطنين بالآلاف في المعتقلات وفرض إجراءات وقوانين وتشريعات متخلفة وقاسية وضرائب مرهقة والقيام بالتدخل العسكري المباشر وغير المباشر في شؤون البلاد المجاورة والبعيدة، وتستخدم الإرهاب كأداة فعالة لتحطيم الخصوم ودعم المنظمات المتطرفة مالياً وعسكرياً بأساليب ماكرة، في محاولةٍ يائسة لتصدير ما تسميه ب”الثورة الإسلامية”، إلاّ أنها تزداد يوماً بعد يوم عزلة في المجتمع الدولي، وفي النهاية سيسقط هذا النظام لا محالة لأن أخطاء قادته كافية لانهياره من الداخل.
ولننظر إلى حزب العمال “الكوردستاني!” الذي تبرأ من كوردستانيته علناً وصراحةً ولمراتٍ عديدة على ألسنة زعمائه، فهذا الحزب تأسس وظهر على الساحة الكوردية كفصيل ثوري من خلال تضحيات رفاقه، وفي مقدمتهم الشاب مظلوم دوغان الذي لم يتمكن من الوقوف على قدميه أمام المحكمة العسكرية في مدينة آمد (ديار بكر!) لشدة ما تعرّض له من تعذيب وحشي، إلا أنه قال بجرأةٍ في وجه طغاة الطورانيين وجنرالاتهم (في المقاومة حياة)، فألهب حماس الشباب الكوردي أينما كان، في حين هرب زعيم الحزب وقلة من رفاقه إلى لبنان لينشطوا فيما بعد باسم (حزب العمال الكوردستاني) وليدخلوا في حاشية دكتاتور سوريا حافظ الأسد البائد وفي خدمة المخطط العلوي الطائفي في سوريا وتركيا، وبالتالي ليصبح تابعاً لحكم الملالي في ظهران، وخصماً لدوداً لكل من ينتقد سياسات دمشق وطهران، ومن خصومه كان الدكتور عبد الرحمن قاسملو أيضاً، رئيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني (في ايران) الذي اغتيل في عام 1989 في النمسا على طاولة المفاوضات مع ممثلي حكومة إيران الذين لم يكونوا سوى قتلة مجرمين من مخابرات الملالي، ولم نسمع من هذا الحزب العمالي ولو تغريدةً حزينة على فقدان هكذا مناضل كوردي كبير.
هذا الحزب الذي تأسس على فكر شيوعي شمولي ما كان ليستطيع نشر أفكاره بين شعبنا الكوردي الذي له ثقافة وعقائد دينية تمج الشيوعية ولا تسمح بإفساح المجال لها لتأخذ مكانها في المجتمع، إلا لأسبابٍ موضوعية منها:
– استمرار معاناة الشعب الكوردي تحت وطأة الاضطهاد والتمييز وانكار وجوده القومي، وتطلعه للخلاص والحرية واستعداده لدفع الثمن مهما كان باهظاً.
– فشل القوى والحركات والأحزاب الكلاسيكية في تحقيق أهداف الشعب الكوردي، في سائر أنحاء كوردستان، مقابل طرح ثوري مثالي يتضمن حرية واستقلال هذا الشعب من قبل حزب العمال.
– انهيار الثورة الكوردية المجيدة (1961-1975) في جنوب كوردستان وحدوث هجرة مليونية لشعبنا صوب إيران وتركيا مما أثار رد فعل قوي بين الكورد، وتعالت صرخات الاحتجاج ضد الولايات المتحدة التي خان وزير خارجيتها هنري كيسنجر قائد الثورة الكوردية الملا مصطفى البارزاني، ووافق على اتفاقية الشاه الإيراني مع صدام حسين (إتفاقية الجزائر المشؤومة 1975) للتعاون والتنسيق فيما بينهما ضد الثورة الكوردية والحركات الثورية في إيران والعراق.
– تعاظم نجاحات الحركات الشيوعية واليسارية في العالم الثالث واشتداد وتيرة الإعلام الشيوعي وتضخيم قوى الاتحاد السوفييتي.
– القدرة الحركية والقتالية للثورة الفلسطينية في منطقة الشرق الأوسط بدعم عربي وإيراني بعد سقوط الشاه، مما أثار الرغبة الكوردية في العمل الثوري.
– الأوضاع الاقتصادية المتردية في شمال كوردستان، واتساع نطاق الفساد بمختلف أنواعه وعلى مختلف مستويات الدولة التركية وإداراتها في تركيا عامة وفي كوردستان خاصة.
وتمكن حزب العمال “الكوردستاني” من استغلال الظروف الدولية التي سادت أثناء فترة نشوئه (وجود معسكرين متقابلين: حلف النيتو وحلف وارسو) والظروف الإقليمية (وجود قوى الثورة الفلسطينية، ونجاح ثورة الشعوب الإيرانية، وتعاظم التناقضات بين نظامي الأسد التابع لإيران وحكومة تركيا التابعة للولايات المتحدة آنذاك)، وبخاصة بعد إعلانه “الثورة” في عام 1984 فبنى تنظيماً ستالينيا واسعاً، وجعل من رئيسه السيد عبد الله أوجلان “مرجعية” لا جدال فيما يأمر به من أوامر، ولا أحد يمكن أن يكون “الشخص الثاني في الحزب بعده”، فتم رفعه إلى مستوى الأنبياء والرسل، بل المعبود (أنت خلقتني يا سيدي آبو – كما قال له مرةً الكادر المتقدم جميل بايق) وهو الذي كان باستمرار موضع شك من قبل العديد من الأحزاب الكوردستانية ومتهماً بعلاقاته السرية مع المخابرات التركية، حيث أن حزبه قد قام بقتل معظم كوادر حركة حرية كوردستان ( KUK) الثورية العاملة من أجل تحرير شمال كوردستان، وبسبب عدائه المفرط لثورة آب الكوردية التي اندلعت من جديد في جنوب كوردستان بعد فترة قصيرة من النزوح إلى إيران على أيدي الأخوين إدريس ومسعود ملا مصطفى البارزاني، رغم أن ثمة اتفاقية تم توقيعها بين حزب العمال والحزب الديموقراطي الكوردستاني، يقوم الأخير منهما بموجبها بتقديم العون العسكري للأول وبتنظيم شؤون التواصل بينهما، وبات واضحاً لجميع المراقبين السياسيين أن حزب العمال هذا لا يقبل بوجود منافسين سياسيين له في الساحة الكوردية، وهو مستعد لأن يحرق الأخضر واليابس من أجل فرض هيمنته وفلسفته وعقيدته السياسية وزعيمه على الأمة الكوردية كلها، ولا زال أنصاره يستخدمون تعبير “سروكى نه ته وي – الرئيس الوطني” حتى اليوم، أو “رئيس الرؤساء” على الرغم عن تخليه التام عن المطالبة بحق تقرير المصير للشعب الكوردي، كما أصبح معروفاً أنه ينحاز بشكل انزلاقي صوب أحضان الحلف الإيراني، الطائفي والعدو لطموحات الكورد مهما كانت بسيطة. ويبدو أن حاجة حافظ الأسد الذي كان يريد اللعب على الحبلين بين العرب الأثرياء وإيران قد اختار قبل حزب العمال الولاء لإيران وفرض بالتالي اختياره ذاك على زعيم الحزب الذي كان “بلبلاً في قفص” في أيدي المخابرات السورية بين دمشق وبعلبك اللبنانية. وكان حاجة الأسد للكورد كبيرة من أجل إثارة القلاقل في تركيا لإرغامها على عقد اتفاقية مائية تمنح بموجبها تركيا لسوريا حصةً معينة من ماء نهر الفرات، بعد أن أقامت عليه سدوداً وحبست الكثير من مائه عن سوريا والعراق، وقد هدد صدام حسين سوريا بالحرب إن لم تصله كميات من الماء كافية لبلاده.
في تلك الأثناء، كانت رغبة الكورد كبيرة، في شتى أنحاء كوردستان، في دعم حزب العمال الكوردستاني، لأن طموحه في ألا يذبل الشعور القومي في شمال كوردستان وألا تموت هناك اللغة الكوردية التي لها من العمر آلاف السنين كان طموحاً عظيماً، واستغل الحزب دعم الكورد له بالمال والمقاتلين والمثقفين، وخاصة من غرب كوردستان وجنوبها، وكأنه لم يفهم حتى اليوم لماذا تطوع الألوف من شباب الكورد السوريين، فتياناً وفتيات، وانقطعوا عن مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم من أجل الالتحاق بصفوف مقاتلي الحزب في شمال كوردستان، كما لم يستوعب تماماً لماذا كانت تتخلى المرأة الكوردية السورية، على انفراد أو جماعة” عن أساورها وحليها وأولادها لدعم هكذا حزب… وبدا أن السيد أوجلان لم يعد يهتم بما يقوله وبما يأمر به بالضبط، ففي كل يوم جديد ومختلف عما سبقه، بل متناقض أحياناً، مما أثار التمرّد ضده بين كبار الكوادر والمحاربين، فلم يكتفي بتصفيتهم سياسياً وإنما جسدياً أيضاً، وليس في كهوف كوردستان وعلى ذرى جبالها فحسب، وإنما في الدول الأوربية، مما أغضب الأوربيين الذين رأوا في حزب العمال فصيلاً شيوعياً متطرفاً ضد دولة تركيا العضو في حلفهم الأطلسي، ويسلك سلوكاً “إرهابياً” في التعامل مع المنافسين الكورد ويشعل الحرب في تركيا التي يحتاجون إليها عسكرياً وذات الموقع الاستراتيجي لهم، مما يسبب نزوح مئات الألوف من الكورد الفقراء إلى غرب تركيا وبالتالي نحو أوروبا. فقرروا إيقافه عند حده بما يلي:
– زيادة حجم الدعم اللوجستي للجيش التركي ودعم مؤسسات الدولة التركية مالياً، وعدم الاكتراث بالتهم التي يوجهها الحزب للدولة التركية إجمالاً بصدد خرق حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعب الكوردي.
– وضع اسم حزب العمال الكوردستاني في قائمة الإرهاب السوداء بين المنظمات الممنوع نشاطها في أوروبا.
– القيام بفضح العلاقة الاستراتيجية بين الحزب ونظامي حافظ الأسد وحكومة إيران التي تدعم هذا الحزب وهذا النظام الذي يطبّق من ناحيته سياسةً عنصرية ضد الشعب الكوردي في غرب كوردستان.
وبوضع اسم الحزب في لائحة الإرهاب، بدت كل الأبواب مؤصدة في وجه رفاقه على المستوى الدولي، وظهرت العثرات والمشاكل لتنظيماته في أوروبا، إلاّ أن الضربة الأولى والكبرى التي تلقاها الحزب هو تمكن الدولة التركية من تجنيد أكثر من 70.000 مواطن كوردي بمثابة (حماة القرى) للدفاع عن قراهم في وجه هجمات الحزب، وبالتالي بدأ يفقد مواقعه التي كان قد حررها، واحداً بعد الآخر، رغم الوحشية التي مارسها ضد حماة القرى الذين وقعوا بين إصرار الدولة على قيامهم بما تريده منهم وسياسة حزب العمال غير الرحيمة بهم لأنه اعتبرهم “خونة للوطن” و”عملاء آتاتورك”، وتحول شمال كوردستان بسبب الحرب التي اتسع نطاقها إلى بلادٍ مهجورة وقرى مدمرة وتم فيها تهجير وهجرة تذكرنا بأيام بناة الجمهورية التركية وقيامهم بالمذابح والتهجير الكبير للكورد، ليظهر السيد أوجلان على شاشات إعلامه المشحون بالطنطنة الآيديولوجية وتقديس القائد الذي لا مثيل له، ويقول: “من لا يقف معنا فهو مع الدولة التركية.” ولتتلقى بسياسته هذه سائر التنظيمات الوطنية والديموقراطية الكوردية ضربات متلاحقة من الدولة ومن الحزب على حدٍ سواء، والخاسر الأكبر كان شعبنا الكوردي قبل غيره.
أدرك دكتاتور سوريا أنه لن يتمكن بدعمه حزب العمال من تحقيق أهدافه الطائفية في تركيا (كسب العلويين وتسخيرهم للمشروع الإيراني عن طريق توسيع نفوذه) ولن يقدر على إرغام تركيا على التنازل لسوريا عن ماءٍ كثير، قرر التخلي عن دعم السيد أوجلان الموصوف في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة بالإرهابي، وشعر السيد أوجلان بأنه يسير صوب منحدرٍ خطير، بعد فشله في إقامة “حكومة بوطان” و”جمهورية الزاب” وفي الانتصار مع حلفائه في جنوب كوردستان من أنصار إيران على الحزب الديموقراطي الكوردستاني الذي يرأسه السيد مسعود البارزاني، بدأ يعلن عن علاقاته وعلاقات زوجته، بشكل أو بآخر، مع مخابرات (ميت) التركية، وتكرار مقولة أن (آتاتورك كان ديموقراطياً كبيراً وهو متأثر به) وأنه لا يريد إقامة دولة كوردية مستقلة أصلاً لأن ذلك سيؤثر في استقرار كل من تركيا والعراق وسوريا وإيران، بل يعتبر الطموح للاستقلال “فكرة رجعية”، وأن ما يسعى إليه الكورد في جنوب كوردستان ليس إلا “طعنة خنجر في ظهر الأمة العربية” بل إن “الكورد في سوريا هم في الأصل أتراك نزحوا من تركيا إلى سوريا، وهو يقوم بواجب إعادتهم إلى وطنهم…”، فهل كان يبحث عن منفذٍ تركي لنفسه بعد أن أدرك تماماً فشله في مشاريعه الآيديولوجية والسياسية والقتالية، خاصة وإن رفاقه الذين لم يزرهم ولو مرة واحدة في جبهات القتال قد التجأوا إلى كهوف جبل (قنديل) في أقصى الشمال من جنوب كوردستان، تاركاً إياهم عرضةً للقصف التركي المتوالي بمختلف الأسلحة الممنوعة دولياً. وهل شعر السيد أوجلان بأن الطريق الوحيد لإنقاذ حياته هو في التصالح مع الدولة التي خدمها كموظفٍ مساحة صغير في شبابه، واعترف فيما بعد أنه تدرب على أيدي مخابراتها، ثم خانها وحاربها وعمل على الانفصال عنها؟
بعض الكورد، الذين لا يزالون على ولائهم شبه المطلق لهذا الزعيم العجيب والغريب، يعتبرون كل ما يصدر عنه من تصريحات وما يكتبه من كتب وما يرسله من رسائل لحزبه مجرّد تكتيكات آنية لا تضر بآيديولوجيته الكونية، التي يسعى رجاله وتعمل (أحزابه) على تطبيقها على الأرض، فليس الهدف منها البقاء على حياته في سجن “عمرانلي” منذ 16 عاماً، وإنما هو انتقال ورفعة وضاءة منه، من النضال في سبيل نيل حيزّ قومي ضيق بقوة السلاح إلى رحاب كونفدرالية عالمية بقوة الاقناع والسلام يتربع على عرشها هو وليس أحد سواه. أفلا يذكرنا هذا بمواقف الصوفيين الذين لا يستطيعون الاعتراف بموت شيخهم فيظنون أنه يراهم من فوق السحاب ويطير حيثما يشاء ويبني لهم القصور في الجنة؟
يتبع….