هل يُقسّم العراق إلى ثلاثة أجزاء من جديد؟
أدّى البروز المفاجئ والمروّع لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، على أنه القوة المقاتلة الأفضل تدريباً والأحسن تمويلاً والأكثر حماسة وفاعلية من الناحية العسكرية في الشرق العربي، إلى إثارة حديث كثير عن إلغاء حدود «سايكس- بيكو» المصطنعة التي أُرسيت خلال مرحلة الاستعمار القديم والتي قسّمت سورية والعراق. لكن، على رغم وجود عنصر حقيقة على هذا الصعيد، تبدو المسألة أكثر تعقيداً وتكمن أفضل طريقة لفهمها في النظر إلى جذور الدول الحديثة من منظار تاريخي مفصّل.
أولاً، فيما ينطوي التقسيم على منطق إداري – بحيث أنّ العراق مثلاً كان مؤلفاً من ثلاث محافظات عثمانية قديمة وكبيرة هي البصرة وبغداد والموصل – إلا أنّ هذه العملية لم تكن منظّمة أبداً إذ لم تكن معالم الحدود الغربية لهذه الدولة واضحة فيما عبّر عدد كبير من المجموعات القبلية والإثنية والعرقية عن امتعاضه من النظام الجديد والأكثر مركزية.
وما زاد الأمور سوءاً في العراق هو قيام البريطانيين، الذين كانوا يعتبرون أنّ البصرة هي المحافظة الوحيدة من بين المحافظات الثلاث التي يملكون فيها مصلحة استعمارية طويلة، بتسليم الحكومة إلى دولة العراق المستقلة والجديدة عام 1932 من دون توفير المؤسسات التي من شأنها السماح لها بتنفيذ مهامها الأساسية القاضية بمراقبة أراضيها وحماية حدودها وضبطها.
بالتالي، وجد العراق نفسه أمام عملية تمّ خلالها تحدّي الحكم من بغداد في شكل دوري من قبل هذه المجموعة أو تلك حين بدت الحكومة وجيشها ضعيفين وبشكل أوضح من قبل الأكراد وأحياناً من قبل المجموعات الأخرى في الجنوب والغرب أيضاً.
وتعدّ مسألة اكتساب هذه العملية هوية طائفية أو عدمها، أكثر تعقيداً. صحيح أنّ البعض رأى أنّه تم تقسيم العراق إلى ثلاثة مكونات مؤلفة من الأكراد في الشمال والسنّة في الوسط والشيعة في الجنوب، لكنّ ذلك يبدو إملاءً عقائدياً خارجياً بقدر كونه واقعاً سياسياً محلياً تعدّ فيه الطائفة أحد العناصر المحدّدة للهوية وأحياناً الأكثر أهمية. فعلى سبيل المثال، كان «الفلاحون» لغاية الحقبة التي شهدت إصلاحات في الأراضي في منتصف القرن العشرين، ينتمون إلى طبقة اجتماعية أكثر أهمية تشمل السكان الذين يعيشون على الزراعة بين النهرين الكبيرين دجلة والفرات، مقابل أصحاب الأراضي الذين يسيطرون على الوسط السياسي.
ومن ثمّ، تمّ دفع ثمن إلغاء النزاع الطائفي خلال فترة الحكم الديكتاتوري الذي مارسته مجموعة من الرجال الأقوياء بدءاً من نوري السعيد وصولاً إلى صدّام حسين، مع العلم أنّ عمليات الإطاحة بالأوّل على يد الجيش عام 1958 وبالثاني على يد الغزو الأجنبي عام 2003 خلّفت تبعات غير مقصودة على المجتمع العراقي. ولا شكّ في أنّ الحدث الأكثر تناقضاً هو ذلك الذي سمّي بتحرير العراق على يد القوى الأنغلو- أميركية التي، على رغم أنها أعلنت أن لا نية لها في قيام نظام في العراق على النسق اللبناني، من خلال إنشاء نظام تكون فيه الطائفة أساس التمثيل السياسي، انتهى بها الأمر إلى تطبيق ذلك فعلياً، لكن في ظلّ وجود بعض العوامل الخاصة التي سمحت للّبنانيين بالحفاظ على التوازن الخاص بين الطوائف الكبرى الثلاث التي تملك حجماً متكافئاً تقريباً.
اما في العراق فلم تكن نسبة الشيعة متكافئة مع نسبة السنّة كما هي الحال في لبنان، بل كانت خمسة مقابل واحد. من جهة أخرى، كان العراق بحاجة إلى جيش أكبر بكثير من جيش لبنان من أجل الدفاع عن نفسه وفرض الأمن الداخلي وأقل تأثراً بالنزاع الطائفي وأكثر انفتاحاً على تلاعب القوى الطائفية التي كانت موجودة في المجتمع الأوسع.
ومن ثمّ، بعد النجاح الأخير الذي حقّقته الانتخابات الوطنية في جميع أنحاء البلد وإنشاء برلمان يمثّل شرائح واسعة من المجتمع، لم يكن ذلك كافياً لإزالة الانطباع بأنّ نوري المالكي الذي يعدّ رئيس وزراء ديكتاتورياً آخر كان يدير إدارة شيعية بأكثريتها وفاسدة بعد أن تمّ استبعاد السنّة من عملية توزيع السلطة والنفوذ فيها.
بالتالي، قد يحظى العراق بمستقبل لا يقتصر فيه النزاع المسلح الذي تحوّل إلى نزاع طائفي على تقسيم البلد إلى ثلاث وحدات سياسية وشبه إدارية، بل قد ينتهي الامر الى جرّ قوى الدول المجاورة لا سيّما إيران والمملكة العربية السعودية إلى هذا النزاع على طول الخطوط الطائفية. فضلاً عن ذلك، يبدو أنّ هذه الأمور تصبّ في الوقت الحالي في مصلحة كافة الفرقاء المعنيين، لا سيّما الأكراد بالتأكيد، وربما تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الذي، على رغم حديثه الصارم عن قرب السيطرة على بغداد، مدينة الخلفاء العباسيين، قد يشعر بأنّ محاولة غزو سكان المدن وحكمهم يفوق قدرته الإدارية والعسكرية الحالية.
ولا شيء من ذلك يعد بمستقبل سهل في ظلّ وجود حدود داخلية صعبة وسريعة التغيير، وانعدام الثقة الكبير بين المجموعات المتخاصمة فيما يعدّ العراق مركزاً للتدخل العسكري الخارجي، ربما من قبل أعضاء من القوات المقاتلة الأخرى المعروفة والفاعلة مثل «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» اللبناني.
ومن الجيّد مقارنة ذلك مع عملية تاريخية مماثلة حصلت في سورية حيث استولى الفرنسيون على محافظتين عثمانيتين فضلاً عن متصرفية جبل لبنان عقب الحرب العالمية الأولى وقسّموها إلى وحدات سياسية قبل توحيدها عام 1946. ومن ثمّ، وصلت حقبة حكم آل الأسد الطويلة، الأب ومن ثمّ الابن، حيث كانت دمشق قادرة على بسط سيطرتها على كافة أنحاء البلد على مدى عدّة عقود قبل أن يؤدي الوعي المتزايد للانقسام الطائفي بعد عام 2011 إلى استفاقة المجموعات السنّية المعارضة. وكما هي الحال في العراق، يبدو إمكان هيمنة طائفة واحدة على الطوائف الأخرى من الوسط بعيد المنال في الوقت الحالي.
روجر أوين
أكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد