آراء

وباء كوفيد 19 الكوني.. لمَ لم يستنفر كتابنا في مواجهته كحرب إبادة عظمى وحاسمة؟

إبراهيم اليوسف

حالة ذعر عام:

إنها نهاية التاريخ!

إنها نهاية العيش على هذا الكوكب!

ثمة هواجس كثيرة انتابت كلّ فرد، تعامل مع اللحظة التي آلينا إليها بعمق، وبدأت أسئلتنا الوجودية حول سبب هذه الأزمة الكونية العظمى التي عاشها العالم كله. أسئلة هائلة، بينها المؤتلف الذي يجمع كلّ امرىءٍ في الكون عليها، كما إنّ هناك أسئلة مختلفة، يطلقها كلّ امرىء من موقعه، من حيز مكانته. من زاوية رؤاه، من مصلحته، وضمن إطار ثقافته، لاسيما إذا غدونا أمام سؤالٍ حاد مفاده:

هل يروق لك أن تعيش بخير وحدك؟

كيف تقرأ هلاك الآخرين من حولك؟

ما الذي يمكنك أن تفعله من أجل الآخرين؟ هل عليك أن تسكت لأنّ لا أحد يسمع صوتك؟

أي مصيرٍ تتوقعه للعالم؟

هل إنك تشمت بمصائر الطغاة؟

من الذين تعنى بهم- أكثر- في هذه القيامة الافتراضية؟

ماالذي كان عليك أن تنجزه ولم تفعل؟

ماذا عن أسرتك؟ ماذا عن أصدقائك؟ محبّيك؟

ماالذي لم تقله عبر حسابك على صفحات التواصل الاجتماعي، بعد أن غدا لك صوتك، كما إنّ لدونالد ترامب حسابه الشخصي؟” مع الاعتراف بفارق المتابعين نظراً لظرف خارج يديك”

ماذا ستفعل إن استمرّت بك الحياة مابعد كورونا؟

هل أنت تخاف حقاً؟ وما سبب ذلك؟

في قفص الاتهام:

ما سبق أعلاه غيضٌ من فيض الأسئلة التي لا بدّ وإن انتابتنا جميعاً، أينما كنا، سواءً أاعترفنا بهذا الخطيرالعظيم المحدق أم لم نعترف، لأنها أسئلة وجودية، شريطة توافر عنصر الوعي لدى من نتصوّره- هنا- ونحن نستعرض واقع المأساة البشرية العظمى التي لما نزل نعيشها، إلا أنّ كثيرين من بيننا، لم يتصرّفوا بالمسؤولية اللازمة إزاءها، وفي هذا منتهى الخطورة، ولعلّ من نصنّفهم في عداد-النخبة- لم ينتبه، كثيرون منهم إلى التهديد الجدي الذي  شكّله ويشكّله انتشار جائحة كوفيد19، لكلّ قارات العالم، بعد أن استطاع فيروس- زنيم- غير مرئي أن يهدّد البشرية كلها بالزوال، ما أحدث عطالةً في حياة مليارات الناس، وتدهوراً في اقتصاداتهم، وحيواتهم، على اختلاف لغاتهم، وأجناسهم، وأديانهم، وأعراقهم، وهو ما يحدث لأول مرة، إذ  إنّ الأوبئة التي عرفت عبر التاريخ كانت مكانية،  شبه كسيحة، تتمركز في قارة ما، أو أكثر، ولم  يتح لها الانتشار الذي تحقّق لهذا الفيروس الذي داهم هدأة العالم، وهو يودّع سنة مريرة، ليستقبل سنة أخرى، بدت أكثر رومانسية من قبل، لربما من خلال قراءة- سيميائية- جامدة، نتيجة تكرارالرقم20 مرتين، بل تكرار الرقم اثنين، ومن ثم الصفر، وفق هندسة جاذبة!

إلا أنه ومع بداية العام2021، شهد العالم أحداثاً عديدة، كان أكبرها، و أعمّها انتشار هذا الوباء غير المسبوق من قبل، والذي يستمرّ إلى اللحظة، ولعله يدخل عامه الثالث، بعد أسابيع فحسب، إذ  إنّ بطاقته الشخصية التي تنسبه إلى سلالات- سارس- والتي يكتنفها الكثير من الغموض، ليس في ما يتعلق بذلك السجال بين مَن يرى طبيعية الفيروس، مقابل مَن يرى بيولوجيته، وإنما لما له من خصائص الانتشار بسرعة تكاد تكون على مقاسه، مسجلة له سرعته الخاصة في الانتشار بما جعل قارات العالم كلها تحت وطأة الرعب بسببه، لاسيما وإنّ بعض المتحكمين بمصير العالم باتوا يرتعشون أمام هيبته، ومنهم من أوهم إليه أنه قد التقطه، لأنه صافح آخر مصاباً به، كما إن اجتماعات رفيعة في العالم أجّلت إلى إشعار آخر، غيرمسمَّى، في إطارالوقاية منه، وفي ظلّ إغلاق أبواب المطارات، والحدود، لأنّ هذا الفيروس لم يكن أرضياً فحسب، وإنما تمكّن من تأمين تأشيرات مرور مزوّرة، أو رسمية، ليكون أحد ركاب الباخرة في البحر، والطائرة وهي  في أحضان السماء، بل إنه يتسلّل حتى مع ضحاياه في باطن الأرض، أي ليكون إمبراطور الجهات الست، بحق، كما سميته!

ولعلّ عجز العلم. نكسة مخابر الطب والصيدلة، و هزيمة عقول العلماء، إلى وقت طويل- كما يخيل إلي- من الاهتداء إلى دواء شاف: للمعالجة وللقاح، لمواجهة هذا الفيروس، اللعين، أزاد من هلع العالم، لاسيما عندما غدا من بين ضحاياه أطباء عالميون كباراً واجهوه، في الحرب عليه، ما أوقعهم في مصائده، بالرغم من حكمة هؤلاء، وحذرهم، ليبدو داهية، غدّاراً، متجبَّراً، لاسيما عندما يفتك بأحدهم. كفريسة تقع بين خيوط شباكه المنصوبة على امتداد القارات، إذ إنّ جميع مَن حوله – أي هذا الفريسة- ينفرون منه، مهما كان قدره، ليتمَّ العمل على التخلص منه، وسط إجراءات متشددة، بل إنّ كلّ  واقع في فخاخه يغدو له رقمه العالمي، ويصبح موضع اتهام، وإن ضمن ظروف اللحظة الأكثرإحراجاً..!

لم يبقَ أحد أحد ذو حكمة وصواب في هذا العالم، إلا وكان من عداد متابعي أخطار هذا الفيروس المختلف عن سلالاته التي تمَّ الاهتداء إلى إيجاد أدوية لمواجهتها، بينما راح يتحرّك مطمئناً، ضمن مخططه الذي لا ينجو منه أحد،  وهو يبدّل ملامحه وهويته، متطوراً، متبدّلاً، وإن في لحظة سهو، ليتردّد اسمه في كلّ بلد، وكلّ مدينة، أو قرية نائية، أو شارع، أو بيت، ليوقن كل ذي بصيرة أن لا أحد ينجو من براثنه الفتاكة، لاسيما عندما عرف عنه بأنه متحول، متجدد، و أنه سيظلّ حاضراً على مسرح التاريخ، يفني ولايفنى، واستطاع أن يلقّن العالم: صغيره وكبيره دروساً قاسية، سرعان ما باتت تلاحظ على سلوكيات جميعهم، وأول ذلك حذر جميعنا من جميعنا، وممارسة دكتاتوريته داخل كلّ بيت، وكلّ امرىء، فلا أحد خارج دائرة الرعب العظيم، فهو وحده أغلق مدارس العالم. وحده من عطَّل الدوائر الرسمية. وحده من ألغى كبريات مهرجانات الأدب والفن، واجتماعات قادات الأمم ومجالس حقوق الإنسان. وحده  من أغلق أبواب المعابد. وحده ألغى الحجَّ لأول مرة في التاريخ. لأول مرة منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة !

تجربة شخصية

في صيغة مرافعة فحسب:

من هنا، فقد كنت من عداد هؤلاء الكتاب الذين رأوا  أنه من الضروري توثيق ما يتمُّ. تتبع خطى هذا الفيروس، ليس من ذلك الباب الذي يلجه المختص بعالم الأرقام والإحصاءات، ولا من ذلك الباب الذي يطرقه العارف بأمور الصحة، أوالتخطيط، ولا من موقع الإعلامي المعني، لأنّ الإعلام العالمي لم يبخل بمتابعة الحدث الجلل-في بداياته فحسب وفق إرادة السياسي- بل من موقع الكاتب الذي عليه أن يكتب عن- هذا الامتحان الآدمي- لاسيما بعد أن تردّد على ألسنة كبار الخبراء في مجال علوم الأوبئة بأننا أمام كارثة بشرية، وأنّ هذا الفيروس يقدِّم أوراقه الثبوتية ليكون مواطناً عولمياً، يعيش وحده على مسرح الأرض الذي راق له، وعلى حساب ساكنه القديم الذي هُزم في حربه الكونية الكبرى، وراح يمارس بطشه بحق أخيه الإنسان، ناسياً عدوهما المشترك، ولعله كان سبباً في ولادة هذا الفيروس، إن من خلال فوضاه، أو من خلال عتوه، وضلاله، وإفساده لبيته الكبير، أو من خلال جشعه، وميل بعض جيرانه إلى الدمار، والقتل، عبر امتلاكهم أعظم القوى والأساطيل ليمطَّ  لهم لسانه، قائلاً: إني اللامرئي أهددكم!

وهكذا فقد كتبت انطباعاتي، مرة تحت وطأة القلق، وأخرى في حالة من هدوء أنى لاحت تباشير الخلاص من هذه الكارثة البشرية المهدّدة، وأخرى من موقع الراصد لمتاعب الناس، لاسيما هؤلاء المجوعين الذين تمّ أسرهم في بيوتهم- داخل الوطن-وهم لايملكون ثمن رغيفهم، أو حسوة مائهم، ولا وسائل تكييف منازلهم، أوأدوية أطفالهم، بل وهؤلاء الذين هم بلا بيوت. هؤلاء المطرودون من بيوتهم، الهاربون من- بطش وسائل الدمار- خارج حدود أوطانهم، أو على أطرافها، ليكونوا فرائس بين مخالب هذا الفيروس اللئيم الذي لايوازيه إلا قادة مجرمون، قتلة، أفاقون، كذابون، فاسدون، سارقو أوطان وثروات!

رحت- من جهتي- أكتب في مجالات متعددة، ضمن فضاء العزلة: على نحو يومي، ضاق بها كمبيوتري، فوزّعتها- على طريقتي- وأنا الفاشل، في الهندسة الأخيرة لما أكتب، على ثلاث مخطوطات. منها ما يكاد يشبه الشعر، ومنها مايكاد يشبه القص، ومنها ما يكاد يشبه الرواية، أو المذكرات، أو البحث، أو الدراسة، أو المقال، وذلك بعد أن استبعدت- ما أمكن- المنشور الفيسبوكي، الاستهلاكي- ولعلي مخطىء في هذا- هذا المنشور الذي قد يكون له الوعاء الحاضن، في جولة أخرى، لأشعر أني قدّمت شيئاً ما، لطالما ليس لدي إمكان اكتشاف لقاح، أو عقار، أو تأمين خيمة لمشرد، ولا لقمة طعام لمجوع، ولا رفعاً للظلم- في المدى القريب المباشر- عن  كاهل مظلوم، ليكون مجمل ما أقدّمه- هنا- وفي مخطوطات أخرى، مرافعة عن أحوال كائن بشري مسلوب الإرادة، لا حول له ولاقوة أمام صرخة مريض، يكاد يختنق في محجره المنزلي، أو في مشفى ما، لأنني أعتبره  قد سبقني، ليلتقط الفيروس عني، مغدوراً به، وليس استمراريتي، الآن، في الكتابة، إلا لأنني أعيش مصادفةً، ولاضمانة لي، أو لأحد في أن يعيش وسط هذا التهديد اللحظي من لدن عدو غاشم لايهدأ ولا ينام ولاينتهي وعيده أو نذيره.

ثمة أمر وحيد أريد قوله، وهو وإن كنت قد دوّنت هواجس الناس، سواءً أسمعتها منهم، أو وصفت أحوالهم، أو تخيّلت كلّ ذلك، فإن إيمانا كبيراً يحدوني في أنّ الحياة لمستمرة، وأنه لا بدَّ للآدمي أن يجتاز هذا الامتحان العسير، إلا أنّ جلَّ ما أرجوه هو أن نستفيد. أعني نحن معاشر بسطاء العالم كله. نحن” الأكثرين”. “الأكثرون”، من هذه الدروس الصعبة، بعد أن كابدنا في محاجرنا، وعشنا أشهر قلق رهيب، كي يولد صوت كوني واحد، في مواجهة فاسدي الأرض، وقتلة الناس، وتجار الحروب، لإعادة رسم خريطة العالم، كي يكون لكل منا حضوره على مسرح الجغرافيا،  سواء بسواء، بعد أن خذلنا التاريخ، ما بين ضحية وقاتل وجبان، لأني أرى أنه يجب أن يكون عالم ما بعد هذه الجائحة مختلفاً عما قبله، ولمصلحة البشرية جمعاء. لمصلحة سكان عمارة هذا الكوكب جميعاً. لمصلحة بيئة هذا الكوكب: أرضه، ومائه، وسمائه، على حد سواء.

عود إلى بدء:

ما سبق، وطرحته، من أسئلة متخيلة، مفترضة، إنما هي- في الحقيقة- غيض من فيض،الأسئلة التي يمكن استخلاصها، وطرحها، عبر استقراء مرحلة العزلة الرهيبة التي فاجأت العالم، وجعلت الكون كله متهماً، مطلوب الرأس، معتقلاً من قبل كويئن لامرئي، ليكون في هذا المعتقل الجماعي: القاتل والضحية، على حد سواء، وإن كان لكلّ واحد من هؤلاء أسئلته الخاصة والعامة، إذ إنّ كلاً منهما يتصرّف انطلاقاً من مصلحته، لتكون هناك هوة بين السؤال الخاص لدى المرء وصنوه، بحسب موقعه، بعكس سؤال الخلاص العام، وهكذا، وكأننا في مركبة كونية واحدة، مع سوانا من شعوب العالم: العوام، والقادة. الرؤساء والمرؤوسين. اللصوص والمصلحين. رجال الدين والملاحدة. أصحاب الشركات الاحتكارية الكبرى والمتضورين جوعاً. الشعراء. الصحفيين. الكتاب. السينمائيين. الموسيقيين. الرسامين. المسرحيين. رجال السياسة. القوادين. العاملين في منظمات حقوق الإنسان. القضاة. المعلمين. الطلبة. مصارعي الثيران. الرياضيين. الأمراء. الملوك. السلاطين. المرضى. الأصحاء. كتّاب التقارير. المخبرين. العسس. العسكر. العلماء. العباقرة. الأغبياء. العمال. التجار. الفلاحين والمزارعين الكبار. النساء. الرجال. الأطفال. الشباب. الصبايا. وغيرهم وغيرهم، من كل التصنيفات  التي تخطر أو لا تخطر على البال، بحيث ينتظرنا مصير واحد، وإن كان كلّ المستغلين. الجبابرة. وأتباعهم من  بين ركاب السفينة، وهم تحت سطوة رهاب هذا الفيروس من جهة إلا إنهم، من جهة أخرى،  لايزالون  يخطّطون لأجل مزيدٍ من استغلال الرعية التي تشغل كلّ مقاعد هذه المركبة العظمى!

وإذا كان لكلٍّ منا ما يمكن اعتباره، وبعيداً عن معياري القبح والجمال التقليديين، أمام ما لانهاية من الأسئلة التي تطرح في ما يتعلّق بعالمنا الجواني، فإنّ بقية ركاب السفينة الكونية كذلك، يمكن التمعن في أحوالهم، وتناول ماهم عليه، من منظور جمالي، وإن ضمن صيغتي السؤالين: الفردي العام، لنجد أنّ عالماً من التناقضات التي يمكن تناولها من قبل: التشكيلي، والموسيقار، والسينمائي، والمسرحي، والكاتب، والشاعر، بدءاً من حياة  أعتى دكتاتور أو سفاح، وانتهاءً بحياة وواقع أصغر طفل رضيع فتح عينيه على الحياة والمركبة بين عباب بحر التحدي المتلاطم، مجهول المصير!

من هنا، فإنّ الكتابة عن هذه المرحلة تذكّرني بمغامرات المعنيين بشؤون الفلك الذين يترقّبون سنوات طويلة حركة كوكب ما، أو نجم ما. الشمس. القمر. النيازك، ضمن دورتها، باعتبار أنّ هذه الحالة لاتتكرّر كلّ مئة سنة. أو كلّ كذا سنة، ما يدفعهم للمغامرة، والإبحار، أو السفر، لاقتناص مجرد ثوان، من حياة هذا الكوكب العابر، ضمن وظيفته التي جند لأجلها.

الكتابة عن مرحلة كورونا، ليست ترفاً، وإنما هي مهمة مطلوبة منا، فلربما إنّ كثيرين منا- وأنا أحدهم- لما نقارب، أو لم ولن نقارب حقيقة مايدور، إلا أننا نمتلك القدرة على رصد ما نراه. رصد تصوراتنا لكلّ ما يدور من حولنا، وفي هذا أعظم خدمةٍ- كما أزعم- لوظيفة الكتابة…؟

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد (٢٩٠)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى