الأكراد مكون أصيل في المنطقة… ودولة كردية ليست «إسرائيل ثانية»
عمــاد شقور
لا سابق في التاريخ الحديث لمثل التحالف الذي نشأ في الاسابيع القليلة الماضية بين إيران وتركيا والعراق. الإسمنت الذي بنى هذا التحالف هو العداء لفكرة اقامة اول دولة كردية في المنطقة، وخشية تركيا وإيران ان يشكل الاستفتاء على الاستقلال في «اقليم» كردستان العراق شرارة تشعل نيران رغبة (وحق) الاقليات الكردية الكبيرة في كلا البلدين، وفي سوريا ايضا بطبيعة الحال، في الاستقلال، الذي تسميه تلك الدول، زورا وتلفيقا وظلما، انفصالا.
هذا الاسمنت ذو طبيعة سلبية. فهو لا يستند إلى قناعة اصحابه بانه تحالف «من اجل» مصلحة شعوبهم، وانما هو تحالف «ضد» تطلعات شعب آخر، هو الشعب الكردي. وهذا ما يجعله ينشر رائحة كريهة، وصورة مكفهرة، وطاقة سلبية تعكر الاجواء.
قبل التقارب الحالي للاقطاب الثلاثة: تركيا والعراق وإيران، وبدء تشكيلها لحلفها الحالي، (الذي لم يترسخ بعد، واستبعد كثيرا احتمال نجاحه وتعميره طويلا)، حاولت بريطانيا، مدعومة من أمريكا وحلف شمال الاطلسي، في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، تشييد حلف يجمع هذه الرؤوس الثلاث على مخدّة واحدة، واخترعت له اسم «حلف بغداد». كان إسمنت ذلك الحلف ايضا ذا طبيعة سلبية، هدفه الاساسي الوقوف في وجه مد التحرر والاستقلال القومي العربي بزعامة مصر عبد الناصر اولا، وفي وجه المعسكر الشرقي بقيادة موسكو ثانيا.
لم يكن بين اهداف بناء «حلف بغداد» أي حرص بريطاني، او غير بريطاني، على مصالح وازدهار وتطور وتقدم شعوب إيران والعراق وتركيا. كانت مصالح تلك الشعوب ابعد ما يكون عن أي موقع متقدم في سُلّم اولويات الشاه في إيران، ونوري السعيد في العراق، وجنرالات الانقلابات والادوات التي ينصبونها على رأس الدولة في تركيا.
ونذكر في هذا السياق ان الانقلاب في بغداد يوم 14 تموز/يوليو 1958، الذي اسقط حكومة نوري السعيد، واطاح بالنظام الملكي هناك، دفن ذلك الحلف في مهده. ولم يحصل بعدها أي تقارب بين هذه الاطراف الثلاثة حتى إلى ما قبل ايام معدودة. واكثر من ذلك: نشبت حرب بالغة الدموية بين ورثة النظامين في بغداد وطهران، اضافة إلى حروب بالاصالة وبالوكالة بين طهران وانقرة على الاراضي السورية. وحتى لا نذهب بعيدا في التاريخ، ولو حتى لسنين او لاشهر قليلة ماضية، يكفي ان نذكر التلاسن بين المسؤولين في بغداد وانقرة، قبل ثلاثة اسابيع فقط، مثل تهديد رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، بانه «سيُعِيد جنود الجيش التركي المرابطين في العراق إلى تركيا في التوابيت»، وان نذكر رد الرئيس التركي، طيب رجب اردوغان، المهين للعبادي، وضرورة «ان يعرف حجمه ومستواه».
لا مصلحة حقيقية لشعوب تركيا وإيران والعراق وسوريا، في العداء للطموحات المشروعة للاقليات الكردية الكبيرة فيها للاستقلال، (وليس للانفصال)، وإقامة دولة كردية واحدة تجمع كل ابناء الأمة الكردية، ضمن حدود المناطق الكردية، والبحث والتفاوض حول بعض المناطق الحدودية المتنازع عليها، وحلها من خلال هذا التفاوض، او من خلال التحكيم الدولي. وحتى إذا تعذر اقامة دولة كردية واحدة في المراحل الاولى، فان الحل المنطقي هو اقامة عدة دول كردية تدير شؤونها وتحدد سياساتها ومستقبلها بنفسها.
لم يُعمِّر في كل منطقة الشرق الاوسط على مدى التاريخ الحديث أي حلف بين شعوبها (داخل الأُمة الواحدة)، او بين أُممها الاربع الاصيلة: العرب والاتراك والفرس والاكراد، والطارئة: اليهود. ذلك إذا استثنينا تجربة الخليج العربي التي تتعرض لاهتزازات قوية هذه الايام. سبب ذلك، في اعتقادي، انها جميعا اعتمدت اسمنتا ذا طبيعة سلبية، يركز، بل ويقتصر، على معاداة ورفض لطرف او لاطراف خارجية مجاورة. ويتأكد هذا الاعتقاد عندما نلاحظ النتائج الايجابية للتحالفات التي بنيت على اسس ايجابية، اهمها التكامل والتعايش والتعامل بايجابية مع المكونات الاخرى لتلك التحالفات، كما هو الحال في الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، وكما نشاهد في ايامنا ما يحصل من تطورات ايجابية واضحة في اوروبا (الغربية اساسا)، رغم بعض لا يذكر من تطورات سلبية في تلك الساحات، مثل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي.
اما اسرائيل، المكوّن الطارئ في الشرق الاوسط، ودورها في الإقليم، فيحتاج إلى دراسة وتدقيق بادوات قياس مختلفة. ذلك ان اسرائيل ذاتها «فعل سلبي». وما ينطبق على اسرائيل، لا ينطبق على أي من مكونات الشرق الاوسط الاصيلة. واوضح مثال على ذلك هو القاعدة التي وضعها «مهندس» الدولة العبرية، دافيد بن غوريون، منذ اقامة اسرائيل، وهي قاعدة «التحالف مع كل مسلم غير عربي، ومع كل عربي غير مسلم». وواضح ان هدف التحالفات التي سعت (وتسعى) اسرائيل لحبكها، هي تحالفات ذات منطلق سلبي وهدف سلبي: اغتصاب فلسطين وطرد شعبها والحلول مكانه، ومحاربة كل من يعارض ذلك، والتصرف بمنطق انها جزء من الغرب، وليست جزءاً من الشرق الاوسط. وهذه القاعدة كانت الاساس الذي قام عليه التحالف مع تركيا المسلمة العضو الاصيل في حلف شمال الاطلسي، وذات نظام حكم الجنرالات، والمعادية للعرب. وكذلك التحالف مع إيران الشاه، المسلمة غير العربية، المعادية للعرب ايضا، تلك السياسة التي عبّر عنها الشاه باحتفالاته الفاقعة العنصرية بمرور الفين وخمسمئة سنة على اقامة اول دولة فارسية.
في هذا السياق جاء استكمال بن غوريون لما بدأته الصهيونية من قبل، من نسج خيوط تحالف مع اكراد العراق، وليس مع اكراد تركيا وإيران. كل هذا يقودنا إلى ضرورة التنبيه، مجددا وتكرارا، إلى ان كل تحالفات اسرائيل، دون أي استثناء، هي بالضرورة سلبية المنطلق والهدف. وذلك في حين ان كل الابواب مفتوحة لجميع المكونات الاصلية للشرق الاوسط، لبناء تحالفات ذات محتوى ايجابي. واذا تعذّر تحالف العرب، ومنهم في الاساس عرب العراق وسوريا، مع هذا المُكوّن الاصيل لنسيج الشرق الاوسط او ذاك، فان مصلحتهم الوطنية والقومية الاولى، هي بناء تحالف مع المُكوِّن الكردي الاصيل، باعطائه الحرية المطلقة المشروعة في تحديد خياراته، والسعي للتعاون والتكامل بين ادوار ومصالح الأُمتين العربية والكردية. واذا كانت الطموحات الكردية المشروعة في الاستقلال جمرة حارقة، فلتبق في الحضن التركي او الحضن الإيراني الذي يرفض استقلال ابناء الأٌمة الكردية.
أي محاولة من كاتب او محلل او مسؤول عربي، بتوصيف اقامة دولة كردية مستقلة في اقليم كردستان العراق، واي مناطق كردية اخرى، على انها «اسرائيل اخرى» في قلب العالم العربي، هو توصيف ظالم وخاطئ: فهو ظالم لأن للاكراد الحق في الاستقلال في وطنهم، الارض التي نشأوا فيها منذ آلاف السنين، وليسوا قادمين ولا «مهاجرين جددا» إلى المنطقة، وخاطئ لأنه يرفع مستوى حق الحركة الصهيونية في اقامة دولة لليهود في فلسطين، من مستوى 0٪، إلى مستوى حق الاكراد في الاستقلال وهو حق بمستوى 100٪.
اما بالنسبة للمحاصِرين لاقليم كردستان العراق من الجهات الاربع، ومن الجهة الخامسة التي هي الحصار الجوي الذي يبدأ ظهر اليوم، كما بالنسبة للمحاصَرين في الاقليم، فانه يجدر بهم جميعا معرفة ان الحصار، مهما كانت حدته ومدته، فانه لم يثمر (حتى الآن على الاقل) على مدى التاريخ المعاصر الا مرة واحدة، هي تجربة حصار نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا، وان سبب نجاحه انه استهدف طبقة معينة في المجتمع، هي طبقة المُنعّمين من البيض العنصريين، ولم يلحق أي ضرر بالافارقة السود المحاصَرين اصلا بالفقر والتمييز، بل كان نعمة على هؤلاء. فلا خوف ولا خطر على الاكراد في العراق المحاصَرين هم ايضا بالتمييز والإفقار.
انتهى يوم الاثنين الماضي «عرس» استفتاء الاكراد في العراق. لكن ذلك ليس «شوط الحَلِّة». بقي امام الاكراد عمل كثير يجب ان يتم، وحاجة كبيرة لجهود جدية ومتواصلة لتحقيق هدفهم المشروع في الاستقلال. وهنا يبدأ الامتحان الثاني للقيادات الكردية في العراق. دعنا نأمل ان تكون تلك القيادات على مستوى التحدي، وان تكون مصنوعة من معدن القيادات التي تليق تسميتها بالتاريخية.