حرب عالمية مفتوحة
زارا صالح
خرجت الحروب عن نمطها التقليدي اليوم بعد تجربتين عالميتين (الحرب العالمية الأولى والثانية) خلفت الملايين من الضحايا والمآسي لكنها حسمت بعد أن بدأت وانتهت بتاريخ محدد، وكذلك عرفت الأطراف الدولية المنخرطة فيها بشكل معلن وصريح.
لكن الحروب التي يشهدها العالم اليوم، وفي ظل المتغيرات العديدة والهائلة، خاصة التكنولوجية أو في المجال العسكري – الحربي وأدواتهما، عدا عن ثورة الإنترنت ووسائلها المستخدمة التي تصل إلى كل بيت وشخص، تتجاوز جميع الحواجز لتأخذ على ضوء ذلك بعدا عالمياً وكونيا خارج الجغرافية، وحدود الدول، وحتى المعرفة وإمكانية التواصل ونقل الخبر وإحداث فعل التغيير عبر جهاز صغير في أي بقعة من العالم. وكي لا نذهب بعيداً في السرد، فقط اذا ألقينا نظرة سريعة على لوحة المشهد اليومي لجدول الحرب المفتوحة في الأيام القليلة الماضية لنعلم حقيقة ذلك النموذج المختلف من الحرب العالمية، التي يمكن حتى تسميتها بالحرب العالمية الثالثة، ليس لأن دولا كثيرة تشارك فيها، بل افرادا وجماعات ومؤسسات من كل أنحاء العالم.
والنقطة الاخرى من حيث الاهمية في هذه الحرب هي مواكبتها لوسائل التواصل الصاعدة بقوة، وإمكانية مشاهدة ذلك حيا وكأن الفرد يتابع حدثاً أو فيلماً. فمثلاً مقتل السفير الروسي كارلوف على يد ضابط شرطة تركي لم يكن حدثاً عادياً، كما عهد الناس سماع خبر عن عملية اغتيال عبر الإعلام أو قراءة ذلك في إحدى الصحف، لكنه يعيشها في لحظتها نقلاً مباشراً ويتفاعل معها، خاصة أن العملية تتجاوز التجريد في جنائيتها لتكون تعبيراً عن صراع سياسي – إيديولوجي، فكري وديني يمتلك خلفيات تاريخية في بعض الأحيان، واحتقانات تتفجر في لحظة توفر الأرضية والحاضنة لينتشر مثل النار في الهشيم في كل بقعة من العالم.
أحداث كهذه التي شهدتها تركيا، قد تكون الشرارة في توسيع أكبر للحرب لأنها جاءت رد فعل على ما يحدث في الجوار التركي أولا، أي ما حصل في مدينة حلب وتبعات الدور الروسي وقصفه للمدنيين ودعم نظام الأسد، لكنه أيضاً يشعل الصراع في أماكن أخرى بالتوازي، حيث شهدت عواصم عدة محاولات شعبية للتعبير والتفاعل مع الذي يحصل في سوريا والعراق، أو في اليمن وليبيا ومصر. السفارات الروسية في ايران ودول أخرى دخلت حالة الاستنفار وكذلك الأمريكية. أوروبا استنفرت على وقع العملية (الارهابية) في برلين بعد حادثة الدهس من قبل شاحنة وقتل 12 مدنياً وجرح العشرات، فيما تبنى تنظيم «داعش» العملية مباشرةً، لتنتقل بعدها بساعات الانظار إلى مدينة زيوريخ السويسرية ومهاجمة مركز إسلامي للصلاة من قبل مجهولين، وجرح عدد من الأشخاص، لترفع الدول الاوروبية من درجة استنفارها الامني مع صعود حدة « الاسلاموفوبيا» والعداء للأجانب والمسلمين في تلك البلدان، خاصة من قبل المناصرين لليمين المتطرف والشعبويين.
وإذا أكملنا «رحلة» مراقبة الاحداث المتتالية في أماكن اخرى قد يراها البعض منفصلة، ولكن في حقيقة وجوهر الأجندات والنزاعات القائمة تصب في جدولة الحرب المفتوحة نفسها التي لا تعترف بالجغرافية، لاسيما اذا توفرت عوامل وأدوات الاشعال فمثلاً هل يمكن تفسير التفجير لاحدى احتفالات أعياد الميلاد الذي حصل امس في إحدى حارات حلب ذات الأغلبية المسيحية، بمعزل عن الصراع في المنطقة؟ قد لا يكون له علاقة بحادثة مقتل السفير الروسي أو ما حدث في برلين او سويسرا، لكنه يعكس ويكشف النقاب عما هو كامن في مجتمعات حكمتها انظمة وحكومات شمولية واستبدادية، كانت تستمد بقاءها من جعل تلك النزاعات الخفية مزمنة، ونلاحظ بروزها في المناخ المناسب حرية وتصعيدا.
التناول الدولي على كل الصعد، في أكثر من قضية شهدها العالم لمدة يوم واحد فقط يخبرنا الكثير في عالمية الحرب القائمة وحدودها المفتوحة وزمنها الطويل الاجل. وقد تأخذ الأطراف عناوين مختلفة ذريعة التهييج والتصعيد، فاذا كان «داعش» عنواناً للارهاب مع جبهة النصرة وتنظيمات جهادية اخرى اليوم، فقد كان في السابق يعرف بتسميات اخرى مثل «القاعدة» و»حركة الشباب» وهي مازالت موجودة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هدد بحرق الاخضر واليابس في مواقع الارهاب والتطرف في سوريا من دير الزور الى الرقة، ومحاربة الإرهاب في كل بقعة وفق المصلحة الروسية وأمنها القومي، وأمضت في اتفاقها مع تركيا وإيران رغم كل ما حدث. في القارة البعيدة من العالم حيث تجري الاستعدادات الرئاسية لتسليم دونالد ترامب المنصب في العشرين من الشهر المقبل ليعلن من هناك أنه «سيدمر الإرهاب في العالم» عبر خطاب يصب في صالح التيار اليميني – الشعبوي في امريكا وأوروبا وينعكس على حياة اللاجئين والمقيمين هناك وتزايد معدل الكراهية.
بكل تأكيد نحن امام مرحلة جديدة، بل أكثر صعوبة وتعقيدا في تفاصيلها بعد أن عانت مجتمعاتنا الكثير وتدفع فاتورة سياسات انظمتها التي أجلت المهم وابقت عليه لتترك للقدر والمستقبل المجهول في حقبة تاريخية مفصلية قد تشهد تغييرات في الجغرافيا وخرائط جديدة في المنطقة تفرز وتقرر من قبل الدول الكبرى ووفق اجنداتها، لكن الأصعب في هذه الحرب الإيديولوجية والدينية التي تأخذ طابعاً سياسياً في بعدها الخارجي هو طريقة التعاطي والمعالجة وكيفية ذلك بعد أن انتقلت إلى كل بيت، وهذا ما يحتاج تغييراً في الفكر وتناول الدين ومناهج تدريسه، أي بمعنى بناء الانسان من جديد في سبيل استعادة الانسنة المفقودة في بحر ديمومة الصراع الازلي.
القدس العربي