من الصحافة العالمية

ما هو الوطن؟

آزاد عنز

ما هو الوطن يا سادة؟

يقول المشرد في سرّه وعلنه أريد شبراً من هذه الأرض الواسعة كي أضع عليها حذائي الصغير، فيصفق له شركاؤه في التشرد نريد أشباراً تسع لأحذيتنا، مَن لا يملك شبراً من الأرض كي يُظلّلها بحذائه يبقى مشرداً بدون وطن يحمل عبء حذائه بل يحمل هو عبء الوطن وثقله على أكتافه، فيبقى الحذاء وصاحب الحذاء بدون وطن، هذا هو وطن المشرد، حيث لا يفكر بأكثر من شبر من هذه الأرض الكبيرة التي تتسع للجميع في الظاهر. تماماً كأن تأتي بطفل يرتكز على قدمين حافيتين بعد أن ملأ جوفه الفارغ ببقايا القمامة المرمية على أرصفة الشارع، وأزقة المدينة وتجرّده من ثيابه وتكسو نصف جذعه الأسفل ثياباً ممزقة ليبقى نصف جذعه الأعلى محرراً من عبء القماش وتقول له غني للوطن! فيقول الطفل في خفائه مثقلاً بدموعه عن أيّ وطنٍ يتحدث هؤلاء الحمقى، وأنا عاري الجسد وعاري الوطن؟ يقول الطفل العاري تماماً أريد ثياباً أكسو بها وطني وبعدها أغني للوطن، كي ترقصوا وأغني لكم أيضاً، يردد الطفل قائلاً لا أعرف موسيقى الوطن أيضاً.

ما هو الوطن يا سادة؟

مهد الولادة بعد أن تُقذف بعيداً من الرحم يتيماً فتصطادك مستنقعات الطفولة رهينةً في الشارع القريب من الحي، ويعلمك الشارع كلمات غريبة الأطوار، وتطحن وحل المستنقع بعظامك الفتية حافياً حتى الركبة وتتسخ حتى منكبيك، طفولة بائسة في حيٍ بائس تستنشق هواءً بائساً من أعقاب السجائر المرمية في شارع بائس لرئة بائسة وتنفخ على جدران الشارع الطويل برئة منتصرة اقتلعت الهواء من أفواه المارة، فيصبح الهواء أسيراً في الرئة الزنزانة، وتطلقه مجدداً فيتحرر، وتعيد الكرة الواحدة تلو الأخرى فتكون طفلاً متمرداً شرساً تعتقل ما لا طاقة للطغاة على اعتقاله، تعتقل الهواء ليكون غريقاً بين قضبان رئتيك، وتعتقل الضباب أيضاً بعد أن يحرره الله من قبضتيه الواسعتين، وفي السهل البعيد من الحي تصطحب معك فخاخك المليئة بالديدان القذرة لتصطاد طيور الحسّون، لكن الحسّون كان أذكى منك ومن فخاخك ومن ديدانك القذرة، فاصطدت بدلاً منه عُصفوراً دّورياً أحمق مثلك ومثل فخاخك، وعدت به أسيراً إلى الحي مليئاً بنشوة الانتصار. أما في الصيف فتذهب بعيداً إلى قرية أبيك لتحتال على بساتين القرويين في الظهيرة بعد أن تسترخي أعينهم المرهقة من غبار الحصادات فتقفز كالقردة من السور المنخفض للبستان وتسرق البطيخ الأحمر (الجبس) وتطحنه من أقصاه إلى أقصاه على ركبتيك بعد أن تحمله بيدين صغيرتين، وكأنك تحمل الكون برمته بين راحتيك فيستحم جسدك الضعيف بمائه الأحمر بعد أن تملأ جوفك الفارغ تماماً.

ما هو الوطن يا سادة؟

قلبٌ فارغ يبحث عن مستوطن كي لا يبقى شاغراً أبداً، ويبقى وطن العاشق فراش امرأة عاشقة تستدرجه رائحة جسدها فيذهب مغمض العينين أسير الرائحة، كقيّاف يدرك تماماً أن الكنز ليس مدفوناً تحت التراب وأنما جسد دافئ ينتظره على فراش أكثر دافئاً، فيكتمل الدفء بهما بعد أن يختبئ في كنفها الدافئ ويضع رأسه على نهدها الأيمن ويُقبل نهدها الأيسر بباقات من القُبل تصلي صلاة الجماعة ليحترق الفراش برمته ويحترق الجسدان معاً .

alquds

 جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى