آراء

واقع الشطرنج السياسي واحتمالاته في منطقتنا

عبد الباسط سيدا

تشهد منطقتنا سلسلة من عمليات إعادة النظر في الاصطفافات، وترتيب الأوراق، وتحديد الأولويات من جانب قواها الإقليمية؛ وهي عملياتٌ تهدف، في المقام الأول، إلى تعزيز المواقع ضمن النظام الإقليمي الذي تعرض لهزّاتٍ كبرى منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وهي التي كشفت عن أبعاد المعاناة التي تعيشها شعوب المنطقة، في ظل أنظمة أخفقت في كل شيء سوى في تكريس النظام الأمني، هذا النظام الذي مكّنها من الاحتفاظ بالسلطة طويلاً على الرغم من انعدام الإنجازات.

ومن الملاحظ أن وتيرة العمليات المشار إليها قد تسارعت مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن؛ وهي الإدارة التي تؤكّد أن أولوياتها، واهتماماتها، متمحورةٌ بصورة أساسية بشأن الوضع الأميركي الداخلي الذي يعاني من ارتفاع وتيرة الاستقطاب والعنصرية، فضلاً عن تبعات أزمة جائحة كوفيد – 19. وعلى المستوى الخارجي، هناك ثلاث أو أربع قضايا رئيسة، من الواضح أنها ستحظى بالاهتمام الأكثر، والتركيز الأكبر، من الإدارة الديمقراطية: التحدّي الصيني، الملف النووي الإيراني، أمن إسرائيل. مع وجود احتمالية بروز قضية رابعة، تتمثل في حرب باردة جديدة مع روسيا، نتيجة تراكمات الخلافات المستمرة بين أوكرانيا وروسيا، ومحاولة الروس الضغط على دول البلطيق، الأمر الذي يثير هواجس دول أوروبا الغربية، خصوصا دول الشمال. ويضاف إلى ذلك الوجود الروسي القوي في سورية، والرغبة الروسية في تعزيز العلاقات مع دول الخليج، خصوصا السعودية التي تترقب، هي الأخرى، الأوضاع عن كثب، وذلك لتأثرها المباشر بما جرى ويجري في الإقليم من تحرّكات واصطفافات في ضوء المباحثات الخاصة بالملف النووي الإيراني. هذا فضلاً عن الدور التركي في عدة دول عربية. كما أن الأوضاع في أفغانستان ما زالت مفتوحة على جميع الاحتمالات؛ إذ لم تصل المفاوضات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان بعد إلى الاتفاق الذي رُوج، وهناك رغبة روسية في ملء الفراغ هناك بعد انسحاب أميركي مرتقب.

من جهة أخرى، هناك تفاهمات تركية – مصرية على المستوي الأمني، ومن المتوقع أن تترجم عملياً على أرض الواقع، وعلى المستوى السياسي، إذا ما سارت الأمور على وتيرتها الحالية. ويبدو أن هناك ملفات عدة استدعت هذه الاستدارة في مواقف البلدين، من أهمها: الملف الليبي، وملف شرقي المتوسط، خصوصا في ظل الحديث عن احتمالات اكتشاف واستخراج كميات كبيرة من النفط والغاز هناك: هل سيشمل التقارب التركي – المصري الملف السوري أيضاً؟ أم أنه سيبقى في دائرة البدائل التي يستخدمها النظام المصري لتعزيز موقعه الإقليمي، خصوصا في أجواء تفجّر الخلافات حول سد النهضة مع إثيوبيا، وانتقال هذه الخلافات من دائرة المختصين إلى المستوى الشعبوي التعبوي، بهدف تقوية موقف الحكومة المصرية داخلياً عبر إسكات المعارضين، بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت معركة المياه الحيوية الوجودية بالنسبة إلى كل مصري. وقد تمكّنت الحكومة المعنية من تعزيز موقعها عربياً عبر تنسيق المواقف مع السودان، بخصوص المفاوضات المتمحورة حول السد الإثيوبي، والحصول على تأييد الرئيس التونسي، قيس سعيد، الذي يبدو أنه قد دخل في خصومة علنية مع رئيسي الوزراء والبرلمان، الأمر الذي يُنذر باضطراباتٍ سياسيةٍ نتيجة الخلافات بين حركة النهضة والأحزاب التونسية الأخرى من جهة، والخلافات البينية ضمن “النهضة” نفسها. وفي هذا السياق، من المتوقع أن يساهم التقارب التركي- المصري في ترجيح كفّة معارضي سياسات حركة النهضة واتجاهاتها الحالية. كما أنه قد ساهم، ويساهم في تقليص حدة التباينات بين الليبيين عبر إخراج الإشكاليين، إذا صح التعبير، من المشهد السياسي، مع أن الأمور في ليبيا في بداياتها، وهناك قوى كثيرة متحكّمة بالنفط والمال والسلاح ما زالت تتريث، وتراقب الأوضاع عن كثب.

وفي هذه الأجواء، ظهرت على السطح الأزمة ضمن الأسرة المالكة الأردنية لتلقي الأضواء على الصعوبات الداخلية التي يواجهها الأردن، وتؤكّد أن للأنظمة الملكية، هي الأخرى، مشكلاتها وهواجسها، خصوصا التي لا تمتلك من الموارد المالية ما يمكّنها من تأمين الحد المقبول من الخدمات لمواطنيها، ولم تتمكّن، نتيجة الظروف الداخلية والإقليمية، من جذب رؤوس الأموال العربية والأجنبية، لتساهم في الاستثمار ضمن مشاريع اقتصادية من شأنها امتصاص البطالة المرتفعة بين أوساط الشباب من خرّيجي المعاهد والجامعات، وفتح الآفاق أمام تنمية شاملة، تمتلك مقومات الاستمرارية في ظل قوانين واضحة، تفتح الأبواب أمام المساءلة والمحاسبة، وتعزّز النزاهة والشفافية، وتطمئن المستثمرين.

وفي سياق آخر، متداخل مع ما تقدّم، هناك اليوم محاولة للانفتاح على العراق من كل من مصر والأردن. وقبلها كانت هناك مساع خليجية، خصوصا من كل من السعودية وقطر والكويت، فهناك جهود ترمي، وفق المعلن، إلى بلوغ صيغة من التنسيق بين كل من العراق والأردن ومصر في ملفات إقليمية، خصوصا الملف السوري. وقد صدرت تصريحات، وهناك تسريبات صحافية، عن نية لإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية التي تمثل النظام العربي الرسمي الذي لم يقطع الاتصالات الأمنية، المعلنة وغير المعلنة، مع النظام السوري في أي يوم، على الرغم من كل التصريحات والمواقف السياسية المعلنة التي تشير إلى عكس ذلك.
وليس مستبعدا أن تلقى هذه الخطوة الدعم من الجانب الأميركي، لكونها تحقق شيئاً من التوازن بين العاملين، الإيراني والتركي، في المنطقة. وربما كان التقارب التركي – المصري نفسه، هو الآخر، يأتي ضمن هذا السياق، فتركيا التي تعاني اليوم من صعوباتٍ اقتصادية، وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، تدرك أن الاستمرار في السياسات السابقة، خصوصا على صعيد التنسيق مع الروس والإيرانيين، عبر مسار أستانة – سوتشي، لن يمكّنها من معالجة أوضاعها الداخلية، ولن يمنحها فرصة أداء الدور الإقليمي الذي يتناسب مع حجمها ومصالحها وطموحاتها في أجواء المحاولات الإيرانية، للتمدّد في مختلف الاتجاهات، وطرح إيران نفسها القوة الإقليمية الكبرى التي في استطاعتها مواجهة القوى الدولية الغربية مجتمعة. ولم يعد خافياً أنها تلعب، في هذا السياق، على وتر الخلافات الروسية الصينية من جهة، والأميركية من جهة ثانية. وهي تحاول أن تكون جزءاً من تلك الخلافات، إن لم نقل الصراعات، طالما أن أهدافها لم تتحقق، سواء ما يتصل منها بالملف السوري والدور الأميركي في العراق. وعلى الأغلب، لن تتمكّن تركيا بفعل علاقاتها التحالفية التاريخية مع القوى الغربية، خصوصا مع الولايات المتحدة، وكونها عضوا فاعلا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من الاستمرار في تفاهمها مع الإيرانيين؛ على الرغم من مصالح مشتركة كثيرة بين الطرفين (التركي والإيراني) على صعيد الاقتصاد.

ولعل التوافق الذي تم أخيرا بشأن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية الليبية، والإعداد للانتخابات البرلمانية، يفسّر واحدا من جوانب الاستدارة التركية، والرغبة التركية في التوافق مع الجانب الأوروبي في الموضوع الليبي الذي يظل هاماً إلى الحد الأقصى بالنسبة إلى أوروبا، ومصر وتونس والسودان، فليبيا هي دولة نفطية كبيرة، تمتلك، إلى جانب النفط، موارد ومؤهلات اقتصادية كثيرة أخرى، خصوصا في الزراعة والتجارة والسياحة. وهي، بحكم موقعها القريب من أوروبا، تمثل مصدراً أساسياً من مصادر الطاقة التقليدية، وحتى المتجدّدة بالنسبة إلى الأوروبيين. وواضح أن هناك رغبة أميركية – أوروبية لإبعاد روسيا عن الموضوع الليبي، عبر بناء تفاهمات وتوافقات بين القوى الإقليمية المعنية بالملف الليبي؛ وهذا ما يتبلور على الأرض راهناً، سواء من جهة التوافقات المصرية – التركية، أو الليبية واليونانية، وحتى اليونانية – التركية، وغيرها من التفاهمات.

وإلى جانب كل ما تقدّم، يظل موضوع الملف النووي الإيراني من بين أولويات إدارة بايدن التي تحاول اليوم التفاوض مع الإيرانيين بمختلف السبل، من أجل الوصول إلى صيغةٍ من التوافق، تأخذ في اعتبارها المتغيرات الجديدة في الإقليم، منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاقية المعنية. ومن بين المتغيرات، أيضاً، الموقف الإسرائيلي المتشدد المعلن تجاه الاتفاقية المذكورة، إلى جانب اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية. إلى جانب الصعوبات التي بدأت إيران تواجهها في كل من العراق وسورية، وحتى في لبنان، إذ باتت لعبتها مكشوفة، وهناك نقمة شعبية عارمة في هذه البلدان، حتى ضمن الأوساط الشيعية، على الأذرع الإيرانية وممارساتها التسلطية، وأدوارها في عمليات الفساد الكبرى التي باتت خطراً وجودياً يهدّد كيان الدول والمجتمعات. والنظام الإيراني ماض في لعبة التصعيد مع الإدارة الأميركية، سواء عبر الإعلان عن رفع مستويات تخصيب اليورانيوم، أو من خلال إطلاق الصواريخ، من حين إلى آخر، على مواقع في محيط بغداد وأربيل، حيث توجد قوات ومصالح أميركية.

أما الإدارة الأميركية، فهي مشغولة بأوضاعها الداخلية، خصوصا من جهة تنامي النزعات العنصرية التي تهدّد الديمقراطية في الصميم، وهي نزعاتٌ تستغلها الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرّفة، سواء في أميركا أو في أوروبا، بشعبويةٍ لافتة، تشكل تهديداً جدّياً للأنظمة الديمقراطية التي تواجه أخطارا ملموسة على المستويين، الداخلي والخارجي، نتيجة توحش الأنظمة الاستبدادية التي تعتمد العنف في الداخل والخارج من أجل البقاء. وهي تحاول تغطية نزعاتها الاستبدادية عبر انتخابات شكلية، تجري بموجب دساتير قد فصلتها وفق مقاساتها، وهي، من حين إلى آخر، تدخل عليها من التعديلات والإضافات ما يمنحها فرصة تشديد قبضتها الأمنية على شعوبها.

التحدّيات التي تواجهها مجتمعات المنطقة ودولها كبيرة، وتستوجب رؤى وتوجهات جديدة لا تمتلكها الأنظمة التي سدّت جميع أبواب المستقبل أمام شعوبها، وذلك بعد أن استنزفت مواردها بشعارات كبرى، استخدمت باستمرار لإطالة عمر الاستبداد والفساد والإفساد.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى