نحو دولة المواطنة …
فؤادعليكو
كثر الحديث لدى أوساط واسعة من النخب السياسية في المعارضة السورية منذ بداية الثورة ٢٠١١ عن المواطنة والدولة الوطنية وبأنها تُعتبر الحل الناجع لمشاكل سوريا السياسية والاقتصادية والقومية وترافق ذلك بنشوء أحزابٍ سياسية تحمل الطابع الوطني في التسمية بعيداً عن التسميات القومية المألوفة ما قبل الثورة، وتركّز بمجملها البعد المكاني والمجتمعي للجغرافيا السورية،وهذا التوجّه سليم في مجمله وبدايات مشجعة لبناء الدولة الوطنية المنشودة مستقبلاً، لكن الوقائع الصارخة اليوم على الأرض وما حصل من تباعد مجتمعي كبير وتقسيمات جغرافية فرضتها آليات وظروف الحرب الدامية طيلة العشر سنوات الماضية حيث زاد الشرخ كثيراً عما كان عليه قبل الثورة وتنامت الأحقاد أكثر، كلّ ذلك يوحي أو يؤكّد بأنّ حلم الدولة الوطنية والمواطنة الحقة المنشودة والتي تعني في جوهرها الاستقرار والحرية والعدالة والمساواة ودولة القانون والمؤسسات ضرب من الخيال الخصب ونوع من التمني الجميل غير قابل للتحقيق في المدى المنظور في مجتمع متفكّك مزروع بالأحقاد القبلية والطائفية والقومية،عدا عن افتقارنا المعرفي التاريخي لأبسط مقومات الدولة الوطنية الحقيقية.
فالبرجوازية الوطنية السورية وبعد تأسيس الدولة ١٩٤٦ حاولت وضع أسس الدولة الوطنية وتجلّى ذلك إلى حد ما في دستور ١٩٥٠ ، إلا أن الانقلابات العسكرية المتتالية وطغيان الفكر العروبي على المشهد السياسي حينذاك حالت دون تطوير مفهوم الوطن السوري والدولة الوطنية، و أجهضت نهائياً بقيام الوحدة بين سوريا ومصر ١٩٥٨ ، والتي تجسّدت مفهوم الوطنية لديها بشعار محاربة (الامبريالية والصهيونية والرجعية) والذي استمرّ العمل به في ظلّ دولة البعث وحتى ٢٠١١م واعتبار كلّ مَن يعارض هذا المفهوم هو معادٍ للثورة ومصيره السجن على الأقل عدا عن رفعهم شعارات ثوروية كالمقاومة وكلّ شيء من أجل المعركة وغيرها.
لذلك اختفى مفهوم ومصطلح دولة المواطنة كلياً عن الساحة السورية وطغت على الساحة ثلاث تيارات سياسية ايديولوجية قوية في سوريا طيلة أكثر من نصف قرنٍ والتي لم تنظر إلى سوريا كدولة ذات جغرافية محدّدة ويجب العمل عليها ومن خلالها، بل نظرت إليها كمنطلقٍ لتحقيق حلم أكبر وكل تيار وفق رؤيته رغم التباين الإيديولوجي الكبير فيما بينها.
— التيار القومي العربي الذي انطلق من مبدأ أن الوطن العربي تمتّد من الخليج العربي وجبال بشتكويه(في إيران) شرقا وحتى المحيط الأطلسي غرباً ومن بحر العرب والصحراء الكبرى جنوباً إلى سلسلة جبال طوروس شمالاً.
و انّ الدول الاستعمارية قاموا بتقسيم وطنهم وفق معاهدات واتفاقيات فيما بينهم دون أخذ إرادة الشعب العربي وعليه فإنهم رسموا خارطة افتراضية حالمة مطالبين بتحرير الأجزاء المغتصبة وتوحيد الوطن العربي في دولة واحدة ، وقد تصدر حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والاتحاد الاشتراكي العربي في مصر المشهد ورفعوا نفس الشعار(وحدة حرية اشتراكية)وإن بأولوية مختلفة، وعليه نظر البعث إلى سوريا كقطر وجزء من الكل ومنطلق لتحرير الوطن العربي ولم ينظروا إلى سوريا أبداً كوطن نهائي يجب الاهتمام به وببنيته التحتية وبرفاهية شعبه واستغلّوا الشعارات الكبيرة لاستغلال الشعب لا أكثر.؟
التيار الثاني كان التيار الماركسي متمثّلاً بالحزب الشيوعي السوري الذي رفع شعار (ياعمال العالم اتحدوا) وانطلقوا من هذا الشعار لبناء استراتيجتهم باعتبار الطبقة العاملة العالمية بقيادة موسكو(الاتحاد السوفيتي) في صراع دائم مع الامبريالية العالمية بقيادة أمريكا ،وبأن المرحلة والضرورة تقتضي مناصرة الطبقة العاملة العالمية والوقوف إلى جانب موسكو في كلّ خطوة يخطوها أي أنهم قبلوا طواعيةً قيادة موسكو لها والعمل وفق توجهاتها لذلك دخلوا في حلفٍ مع نظام البعث في سوريا لأنّ النظام يعتبر معادياً (للامبريالية والصهيونية والرجعية) وحليفاً لموسكو.ونتيجة لذلك تمّ التغطية على جميع ممارسات النظام القمعية وحتى اليوم،ولم يفكّروا يوماً ببناء الدولة الوطنية الجامعة للشعب السوري ككل بل اعتبروا أنفسهم جزءاً من المنظومة الشيوعية العالمية وأن سوريا بقعة جغرافية لا أكثر للانطلاق منها إلى الفضاء النضالي العالمي.
— التيار الثالث هو تيار الإسلام السياسي متمثّلاً بالأخوان المسلمين (السني) بالدرجة الأساس والذي يدعو إلى وحدة العالم الإسلامي ككل ورفعوا شعار (الإسلام هو الحل ). والقيادة الرئيسية لهذا التيار في مصر ومن خلال المرشد العام للإخوان المسلمين العالمي الوحيد ، أما في بقية الدول فيعتبرون بمرتبة المراقب العام أي أن الإخوان المسلمين في سوريا يعتبر جزءاً من الكل العام وتتبع أوامر وتوجيهات المرشد العام وهذا ما يقارن بالقيادة القومية والقيادة القطرية في نظام البعث.
أي أنهم أيضاً لم يهتمّوا بالجانب الوطني بالدرجة الأساس أسوةً بالتيارين العروبي والماركسي.
مما سبق نستنتج بأنّ فكرة دولة المواطنة حديثة العهد في سوريا ومطروحة في ظروف غير ملائمة والتي يتطلّب بدايةً حالة من الاستقرار العام والبيئة المجتمعية الهادئة حتى تتفاعل الافكار بشكل موضوعي وإيجابي ،إضافةً الى العمل على تعليم وترسيخ ثقافة دولة المواطنة وحقوق الانسان والقانون الإنساني و إدراجها في مناهج التعليم لتغدو ثقافة المجتمع السوري ككل . بدلاً من أن يكون طرح المفهوم نوعاً من الهروب للأمام في التغاضي عن حل القضايا الحساسة اليوم ،ككيقية إعادة توحيد سوريا المقسّمة بين عدة كانتونات اليوم ولكل كانتون قانونه الخاص به في الإدارة، وكذلك كيفية التصدي لمعالجة القضية الكُردية وقضايا القوميات الأخرى كالآثوريين/ السريان والتركمان وكذلك كيفية إزالة مخاوف الطائفة العلوية والدرزية في الدولة الوطنية المستقبلية،وما هو شكل الدولة الوطنية الملائمة لحل هذه القضايا الكبيرة
منشور في العدد 278 من جريدة يكيتي