التاريخ بين الإمكانية والواقع
ما التاريخ؟ يدل مفهوم التاريخ، في نصنا، على سيرورة البشر و صيرورتهم، والسيرورة من سار، تلك الحركة التي تعبر فيها البشرية عن مسارها، أو الدالة على مسار مجتمع أو جماعة أو شعب أو أمّة، وكلها مفاهيم دالة على السيرورة. فيما الصيرورة، من صار، مفهوم دال على ما صارت إليه السيرورة، إنها أحوال السيرورة وانتقال البشر من حالة إلى أخرى، أو ثبات مرحلة من التاريخ، أو حال النكوص التاريخي أو التجاوز. وليس هناك سيرورة دون صيرورة ولا صيرورة دون سيرورة.
وعندي إن الوعي التاريخي الذي أشرت إليه لم يعد يتكئ على مفاهيم الحتمية والقانونية والضرورة التاريخية لفهم سيرورته وصيرورته، وإن كان هناك ميل للتاريخ، بل صار الفهم لحركة التاريخ ملزماً أن يكشف عن الشروط المتعددة والمتشابكة التي تنتج أحوال التاريخ، وهنا بالذات تبرز أهمية مفهومي الإمكانية والواقع.
في المستوي المنطقي المجرد: كل حال من أحوال التاريخ كان إمكانية في قلب التاريخ بمعزل عن أحكامنا التقويمية لهذه الحال أو تلك. وانتصار إمكانية أو موتها، أي تحوّلها إلى واقع مرده إلى تلك الشروط المتشابكة التي تحدثت عنها. إنها الشروط الذاتية والشروط الموضوعية في تشابكها. والشروط الإنسانية هي حال إرادته من حيث فاعليتها أو جمودها.
والشروط الموضوعية هي الوقائع التي صارت موجودة وجوداً مادياً بمعزل عن اختياري لها. فأحوال التاريخ المادية- الموضوعية صارت مستقلة عن إرادتي حتى لو كانت إرادتي -في لحظة ما- شرطاً من شروط وجودها. فالمؤسسة وإن كانت ثمرة إرادة البشر في تنظيم حياتهم عبر سيرورتهم فإنها أصبحت مستقلة عنهم، وتحولت إلى واقع موضوعي غير مرتبط بإرادتهم. والعلاقات الرأسمالية حال من أحوال الصيرورة التاريخية لكنها أصبحت واقعاً بمعزل عن الذات الإنسانية وهكذا.
نعود إلى المفهوم الأرأس في نصنا وهو الإمكانية، الإمكانية واقع لم يتحقق بعد ينمو في أحشاء الواقع الموضوعي الذي تحدثت عنه. فالواقع الموضوعي هو الذي يخلق الإمكانات في الواقع و في الوعي معاً. ولكن هناك فرق كبير بين الإمكانية في الواقع والإمكانية في الوعي حتى لو كانت الإمكانية من خلق الواقع الموضوعي.
فالواقع الموضوعي للاستبداد في ذروة قوته قبل انحداره لا يخلق في العادة إمكانية زواله أو تحوله أو تجاوزه أو الثورة الكلية عليه ولكنه، أي الاستبداد قد يخلق هذه الإمكانية في الوعي فقط دون أن يكون لها وجود في قلب حركة التاريخ في سيرورته. وعندي بان أكبر مشكلة يواجهها البشر في علاقتهم بالتاريخ هي مشكلة التضاد بين الإمكانية التي في وعيهم والإمكانية في الواقع.
المثال الأبرز الذي تعيشه العرب منذ زوال الدولة العثمانية هو الوحدة العربية أو الاتحاد العربي. فالواقع الموضوعي للعرب هو أنهم مجموعة من الدول المستقلة بحدودها الجغرافية- السياسية، باقتصادها، بسلطاتها، بمؤسساتها، بعلاقاتها الخارجية.. الخ.
هذا الواقع لم يرق لعدد كبير من العرب، عامة ومثقفين، فخلق لديهم وعياً بإمكانية الانتقال من تعدد الدول الواقعي إلى دولة واحدة. هذه الإمكانية في الوعي هي ثمرة الواقع الموضوعي ولكنها لم تكن واقعاً في قلب الواقع الموضوعي. فظلت قائمة في الوعي. فالشروط الموضوعية التي خلقت في الوعي إمكانية الوحدة لم تخلقها في الواقع نفسه.
ولهذا يمكن أن نميز بين عدة أنواع من الإمكانيات التاريخية:
1- الإمكانية الواقعية: وهي الإمكانية التي ولدت وتطورت في قلب الواقع الموضوعي بفعل التغير العفوي في شروط الواقع. وحين يكتشف الوعي هذه الإمكانية الواقعية بإيجابياتها وسلبياتها وتصبح جزءاً من فاعليته ينتج التطابق بين الإمكانية في الذهن والإمكانية في الواقع. هذا التطابق إما أن يفضي إلى انتصار الإمكانية الإيجابية والتحول إلى واقع جديد يخلق إمكانياته الجديدة، أو أن هذه الإمكانية المتطابقة مع الوعي الذي اكتشفها تتعرض لعامل قوي نابذ لها يحول دون تحققها، وينتصر على الإرادة التي انتدبت نفسها لنقل الإمكانية الواقعية إلى واقع. فعامل خارجي واحد لم يدخل في حسابات الوعي قد يعرقل تحقق الإمكانية الواقعية أو يطيح بها. أما إذا لم يستطع الانتصار على الإمكانية الواقعية السلبية فهذا ما يطلق عليه التراجع التاريخي. ولهذا فالسلبي والإيجابي في الإمكانيات على ترابط بالقوى المجتمعية نفسها.
الإرادة التي تعمل على تحقيق إمكانية زائفة فإنها قادرة على الفعل دون القدرة على تحقيق إمكانياتها حتى لو كسرت رأس التاريخ لمرحلة قليلة، وتهيأ لها بأن التاريخ قد انقاد إليها. إن إرادة كهذه توقف ولادة الإمكانيات المتصالحة مع السيرورة التاريخية
2- الإمكانية الواقعية القريبة: وهي الإمكانية الواضحة للعيان والتي لا تحتاج إلى جهد لنقلها إلى واقع أو لمنع تحققها بتوافر حظ بسيط من الإرادة وهي، غالباً، من الإمكانيات التي لا تحدث تحولاً استراتيجياً في الواقع. وهذه الحال تميز المجتمعات المستقرة التي ترصد إمكانياتها دائما بإيجابياتها وسلبياتها.
وهذه الإمكانيات الواقعة القريبة، هي الأخرى، على نوعين إيجابية وسلبية تنشأ بفعل الاستقرار نفسه. وهي من قبيل الإمكانيات التي يسهل التعامل معها في المجتمعات العقلانية- الديمقراطية.
أما في المجتمعات المتأخرة ذات السلط اللاعقلانية المستبدة والتي لا تلتفت للإمكانيات عموماً فإن الإمكانيات الواقعية القريبة السلبية تتراكم مع الأيام لتغدو كيفاً منذراً بالخطر.
3 – الإمكانية الواقعية البعيدة: وهي الإمكانيات التي تنشأ مع مرور الزمن دون القدرة على ملاحقتها والوعي بها إلا في لحظة انكشافها الأخير. هذه الإمكانية بوصفها ثمرة التفكير المنطقي المجرد توجد في الذهن قبل وجودها في الواقع، وتكتسب واقعيتها من التجربة التاريخية للمجتمعات البشرية.
فالوعي بخبرته التاريخية قادر على أن يقول بأن استمرار الفقر والفساد والقمع في دولة ذات نظام تسلطي ستكون الثورة فيه إمكانية حتى ولو لم ير أيّ ظهور لها. وبالتالي إن الإمكانيات الواقعية البعيدة تحضر بوصفها ثمرة العلاقة بين المنطقي والتاريخي. ولكن لا ضرورة أو حتمية هنا، إذا قد يكذب التاريخي المنطقي، كما كذب تاريخ بريطانيا الرأسمالية منطقية ماركس. وبالتالي لا يمكن الركون إلى ظهور إمكانية واقعية بعيدة حتى لو كانت نتيجة من نتائج وعي التجربة التاريخية. وهناك الإمكانية المتخيلة التي أصبحت بفضل التقدم العلمي واقعية كارتياد السفر في الفضاء.
4- الإمكانية الزائفة: والإمكانية المتخيلة في الذهن على أنها إمكانية قابلة للتحقق، وهي في الواقع مستحيلة التحقق لأنها ليست إمكانية عائشة في قلب الواقع، بل أنتجها الوعي الزائف بالتاريخ وبالواقع . وغالباً ما تمتلئ الأيديولوجيات بهذا النمط من الإمكانية.
و الإمكانية الزائفة أنواع كاستعادة حال من أحوال الماضي في الذهن ولاعتقاد بإمكانية تحقيقها في الواقع بالقوة. وهذه هي إمكانية القوى الأصولية كلها. وكإمكانية البقاء الدائم المطلق دون الاعتراف بتغير الأحوال، وهذه إمكانية القوى التسلطية، كالدكتاتوريات بأنواعها، وكإمكانية الانتقال من التصور المتجاوز للواقع إلى الوجود مع استحالة تحققه كصورالأوتوبيات المختلفة وهذه الإمكانيات الزائفة ينتجها الوعي بوصفها رد فعل على الواقع و ليس ثمرة فهم له.
5- الإرادة والإمكانية: تقوم بين الإرادة والإمكانيات آنفة الذكر علاقات متنوعة بالضرورة. وعندما نقول إرادة فالإرادة لا تنفصل عن الوعي و أنواعه أبداً.
فالإرادة البشرية التي تسلحت بوعي الإمكانية الواقعية القريبة أو البعيدة، غالباً إذا لم تواجه عائقاً يضعف إرادتها، فإنها تخلق تطابقاً بينها وبين التاريخ، فيجري التاريخ مجرى الانتقال من حال إلى حال حتى لو دفعت الإرادة جراء ذلك أتاوة كبيرة. فالثورة الفرنسية، مثلاً، ما هي إلا الإرادة التي نقلت البرجوازية من إمكانية سيادتها الكلية إلى واقع. وهذه الإمكانية انتقلت بأشكال مختلفة ومتعددة في عوالم أوروبية أخرى. بل إن هناك إمكانيات واقعية تتحقق دون الشعور بها، فاختراع الآلة البخارية مع تطورها في اللاحق قد ولد من الإمكانات وتحققها ما لم يخطر على بال. فاختصار وقت السفر بين المسافات إمكانية ولدها العلم، العلم الذي ولد تصورات كثيرة على إنها إمكانيات وحولتها الإرادة، والعقل إرادة إلى واقع.
أما الإرادة التي تعمل على تحقيق إمكانية زائفة فإنها قادرة على الفعل دون القدرة على تحقيق إمكانياتها حتى لو كسرت رأس التاريخ لمرحلة قليلة، وتهيأ لها بأن التاريخ قد انقاد إليها. إن إرادة كهذه توقف ولادة الإمكانيات المتصالحة مع السيرورة التاريخية، وتخلق الشروط التي تجمد الصيرورة ذاتها. وعندها يبدأ الانحدار التاريخي إلى الوراء ويخلق من إمكانية الدمار الشامل للحياة.
6- موْت الإمكانية: إن أخطر ما يواجهه التاريخ البشري هو موْت الإمكانيات التي تحتاج إلى إرادتهم. فهناك كما قلنا إمكانيات واقعية تنشأ بفعل التحولات العفوية في المجتمع، لكنها تموت بفعل غياب الإرادة، أو بفعل أخطاء الإرادة في نقلها إلى واقع. وهناك إمكانيات تكون قابلة للتحقق في شروط تاريخية ما وتزول بزوال هذه الشروط. وخسارة إمكانية ما خسارة قد لا تتكرر وقد تولد من الوقائع ما لا يستطيع البشر تحمله. فالإمكانية الواقعية المعبرة عن ميل تاريخي تفسد بفساد وعيها وتموت في غياب الإرادة، أو في وجود إرادة جاهلة.
7- المصادفة والإمكانية: كل مصادفة تحققت في الواقع كانت إمكانية مجهولة من قبل الوعي. لكنها لم تكن إمكانية قوية، بل قد تكون أضعف الإمكانيات. وفِي كلا الحالين لم تكن في حسبان الوعي. فظهور دكتاتور على مسرح تاريخ بلدٍ من البلدان هو محض مصادفة، لكنه كان إمكانية خفية، هذه المصادفة قد تغير مجرى تاريخ هذا البلد أو ذاك، بل وقد تغير مجرى تاريخ عالمي.
والإمكانية المصادفة غير قابلة للتوقع، في حين كل الإمكانيات الواقعية الناتجة عن مجرى التاريخ هي قابلة لتوقع مصيرها.
وبعد: إن من شأن فهم العلاقة بين الإمكانية والواقع أن تجعل من فعل الإرادة معقولاً فصناعة التاريخ والفعل السياسي والاقتصادي أمور لا يستقيم التعامل معها دون وعي بهذه العلاقة. بل إن اكتشاف الإمكانيات وحجمها ومصيرها يسمح للإرادة أن تفكر وفق حقل قوتها، وتحميها من الشطط المدمر.
والنظم الدكتاتورية المتأخرة تاريخياً لا شغل لها سوى رصد الإمكانيات التي تشكل خطراً عليها، فتعمل على القضاء عليها وعلى الإرادة التي قد تجز عملية نقلها إلى واقع. ولكن أنظمة كهذه لا تدري بأنها بقتل الإمكانيات تقتل ذاتها، لأن التاريخ بالأصل حقل ممكنات واقعية وليس ممكنات زائفة كتصور في الذهن لا يملك جذره الواقعي.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 278