المفاوضات الكردية – الكردية وسياسة كسب الوقت
عبدالباسط سيدا
المسألة الكردية في المنطقة عموماً لها بعد جيوسياسي إقليمي محكوم بطبيعة المعادلات الإقليمية – الدولية التي ضبطت الأوضاع في المنطقة خلال القرن المنصرم. ويبدو أن هذه المعادلات هي الآن في طريقها نحو اتخاذ صيغة جديدة نتيجة تبدل أولويات الفاعلين الإقليميين والدوليين، وبروز تحديات جديدة، خاصة من جهة تنامي الدور الصيني، واعتماد القوى الإقليمية، خاصة إيران وتركيا أيديولوجية قومية – دينية تعبوية، تستلهم الماضي الإمبراطوري، وذلك في نزوع واضح نحو تجاهل وتجاوز استحقاقات الداخل التي تتمثل في ضرورة إيجاد الحلول للمشكلات الاقتصادية والمجتمعية، وقضايا حرية التعبير، وحقوق الإنسان على مستوى الأفراد والجماعات.
لقد اتخذت المسألة الكردية في بلدان المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ومع تشكل الدول الجديدة في المنطقة، طابع المسألة الوطنية الخاصة بهذه الدولة أو تلك. هذا رغم أن الحلم الكردي المشروع كان وما زال يرواد كل كردي، وهو حلم الدولة الكردية المستقلة. ويقوم هذا الحلم على الاعتقاد بأن هذه الدولة سيكون من شأنها، حماية الكرد، وإبعادهم عن مخاطر الحروب والمجازر وحملات التدمير والنهب والسلب التي تعرضوا لها على مدى قرون عدة نتيجة صراعات وحروب القوى الإقليمية بأسمائها المختلفة.
ولكن الأحلام شيء، والوقائع شيء آخر. والأخطاء الكبرى تحصل عادة نتيجة عدم التمييز بينهما، هذا في حين أن المصائب الأكبر تحدث بفعل استغلال بعض الجهات السياسية مشاعر الناس وعواطفهم، لزجهم في مشاريع كارثية، تجعل الحلم أبعد منالاً، وتقطع الطريق على المقدمات الواقعية الضرورية لإيجاد الحلول للمشكلات التي تبدو عصية على المعالجة.
وهذا ما ينطبق على الحالة السورية تحديداً. فحجم الكرد على صعيد الأرض والشعب يعد الأصغر مقارنة بما هو عليه الحال في كل من تركيا وإيران والعراق. وكان في الإمكان استيعاب الوجود الكردي في الدولة السورية الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى ضمن سياسة وطنية شاملة، تركز على مفهوم الوطنية السورية، وتعمل على إعطاء الأولوية لحاجات وتطلعات المواطنين السوريين، ومن دون قطع الجسور بينهم وبين محيطهم الإقليمي بأبعاده القومية والدينية والاجتماعية بصورة عامة. وقد كانت هناك إرهاصات واعدة في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولكن الذي حصل هو أن القوى المتنافسة على الحكم راهنت على الأيديولوجيات العابرة للحدود، ولم تتمكن من التأسيس لأيديولوجية وطنية كانت ستمكن السوريين من جهة امتلاك الثقة بالنفس على المستوى الوطني، والقدرة على وضع الحلول الناجعة لجملة القضايا الوطنية؛ وهو الأمر الذي كان سيجعل من التنوع السوري عامل قوة لسوريا والسوريين عبر توظيف روابط الانتماءات المجتمعية لصالح البلد وأهله، لتكون سوريا ساحة للتفاعل والتمازج الحضاريين بين شعوب المنطقة، ومفتاحاً للأمن والاستقرار فيها. ولكن الذي حصل كان العكس تماماً، إذ اُستغلت طاقات البلد وإمكانياته، وقدرة ناسه، لصالح مشاريع شعاراتية أسفرت عن تحطيم الداخل الوطني في سائر الميادين، وعلى جميع المستويات، خاصة في ظل الحقبة الأسدية المستمرة منذ خمسين عاماً.
فمن المعروف أن حافظ الأسد كان يحرص على استغلال الأوراق الإقليمية من أجل فرض ذاته بوصفه اللاعب الإقليمي الذي لا يمكن تجاوزه، الأمر الذي مكّنه من فرض سلطته المطلقة على السوريين في الداخل، وذلك بعد أن تمكن من تدجين كل الأحزاب المعارضة عبر اختراقها، وإلحاقها بنظامه. أما القوى التي أصرّت على المقاومة، فقد أخرجها من دائرة التأثير، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى جماعة الإخوان المسلمين، والحزب الشيوعي – المكتب السياسي.
ومن بين الأوراق التي اعتمدها حافظ الأسد، الورقة الكردية، وورقة حزب العمال الكردستاني على وجه التحديد التي اضطر لاحقاً إلى التخلي عنها عام 1998 بعد الضغوط التركية التي توافقت مع التوجهات الأمريكية في المنطقة، وتجسدت حصيلة هذا التراجع في إبعاد أوجلان عن سوريا، وعقد اتفاقية أضنة الأمنية مع تركيا عام 1998.
ولكن العلاقات الأمنية ظلت مستمرة بأشكال مختلفة مع حزب العمال الكردستاني، وواجهته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي، خاصة بعد أن توثقت العلاقات بين الحزب المذكور والنظام الإيراني، وهي العلاقات التي تعود بجذورها إلى بدايات ثمانينيات القرن المنصرم، وقد تزامنت مع بدايات استثمار إيران في مشروعها التوسعي في كل من سوريا ولبنان، وذلك بهدف ممارسة صيغة من الضغط المزدوج على النظام العراقي في خضم الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988.
ومع بدايات الثورة السورية آذار/مارس 2011 تم تفعيل العلاقة مع حزب العمال الكردستاني مجدداً من قبل النظام السوري، وبالتنسيق الكامل مع النظام الإيراني. وكان التوافق على تسليم المناطق الكردية إلى الحزب المذكور، في حين كُلف حزب الله، إلى جانب الميليشيات المذهبية العراقية والباكستانية والأفغانية بتنفيذ المهمام المطلوبة في بقية المناطق، وبإشراف إيراني مباشر.
ومع ظهور “الكوكتيل” المخابراتي “داعش” تغيّرت الأولويات، وأُعيد توزيع الأدوار، فأصبح حزب الاتحاد الديمقراطي شريكاً للتحالف الدولي في محاربة الإرهاب. وفي سعي من الحزب للتغطية على كونه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، شكل ما يسمى بمجلس سوريا الديمقراطية، وقوات سوريا الديمقراطية؛ ويبدو أن هذه الخطوات لم تكن بعيدة عن رغبات الجانب الأمريكي الحريص على عدم إثارة مخاوف تركيا إلى حد قد يدفع بها نحو الانخراط العضوي في التحالف مع الروس والإيرانيين.
وبعد أن تمكن الأمريكان من السيطرة على منطقة شرق الفرات بفعل التنسيق الكامل بين القوة الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، و”قسد” على الأرض، تم استخدام هذه المنطقة ورقة ضغط في مواجهة الروس في سوريا، والإيرانيين في العراق. أما بالنسبة إلى تركيا، فيبدو أن المقايضة تمت معها بطرق مختلفة، وذلك عبر إطلاق يدها في العديد من المناطق السورية؛ إلى جانب السكوت عن تدخلها في ليبيا؛ وغض النظر عن تحركاتها في شرق المتوسط ومنطقة ناغورني قره باخ بين أرمينيا وأذربيجان.
وفي سياق جهود ترتيب الأوضاع ضمن منطقة شرقي الفرات، تحرص الولايات المتحدة على عقد صيغة من التفاهم والعمل المشترك بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، على أن يكون مقدمة لتفاهم كردي – كردي، وكردي عربي وسرياني آشوري أوسع في المنطقة. ورغم مرور أشهر على المفاوضات العلنية، ورغم الإعلان عن التوافقات السياسية، والتوافق على النسبة العددية في المرجعية المقترحة، ورغم الوعود الكثيرة بقرب الوصول إلى توافقات شاملة، خاصة أثناء زيارة جيمس جيفري الأخيرة إلى الحسكة، يلاحظ أن الأمور ما زالت تراوح في مكانها، ولم تحدث اختراقات فعلية من شأنها طمأنة سكان المنطقة على اختلاف انتماءاتهم. وما يُستشف من هذا الأمر هو أن مختلف الأطراف تلعب على عامل الوقت انتظاراً لتطورات مقبلة، خاصة على صعيد موضوع العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. هل ستشهد هذه العلاقة انفراجاً وتهدئة، سواء في العراق أم في سوريا؟ أم ستكون عرضة للمزيد من التصعيد؟
في الحالة الأولى قد يحدث توافق بين قيادة قنديل لحزب العمال الكردستاني القريبة من النظام الإيراني بتمرير توافق بين حزب الاتحاد الديمقراطي والأحزاب الكردية السورية. ولكن في حال التصعيد، فإنه على الأرجح أن نرى عملية نسف لكل ما تم التوافق عليه، وهنا لن يكون أمام قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي من السياسيين والعسكريين سوى الاختيار بين التحرر من هيمنة حزب العمال الكردستاني، والاندماج مع مشروع الكرد السوريين ضمن إطار المشروع الوطني السوري العام.
أما الخيار الثاني فهو الاستمرار في دائرة الالتحام العضوي مع الكردستاني وأجنداته الإقليمية التي تتعامل مع قضية الكرد السوريين تعاملاً نفعياً وظيفياً، بهدف تحصيل النقاط في أماكن أخرى، وهي صفقات لا مصلحة للكرد السوريين والسوريين عموماً فيها.
الخيارات الكردية محدودة للغاية، وهي مرتبطة بمواقف الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة وخيارتها الإستراتيجية في المنطقة. وليس من المستبعد أن يكون هناك توافق أمريكي – تركي من أجل وضع حد للتغلغل الإيراني، سواء في سوريا أم في العراق. كما أنه ليس من المستعبد أن تكون هناك صيغة من التفاهم بين الولايات المتحدة والجانب الإيراني والتركي في سياق صيغة جديدة من المعادلات التوازنية في المنطقة.
أما أن تتخلى أمريكا عن مصالحها الإقليمية الكبرى، مقابل التمسك بعلاقتها مع حزب الاتحاد الديمقراطي، أو مع كرد سوريا ككل، فهذا أمر مستبعد على الأغلب، وبناء على ذلك يظل موضوع التفاهم الوطني السوري على القواسم المشتركة، وعلى برنامج وطني يطمئن سائر المكونات السورية، من دون أي استثناء أو تمييز، هو المدخل لتعزيز وحدة السوريين، الأمر الذي سيمكنهم من العيش المشترك رغم كل ما حصل.
وحتى لا نبيع أنفسنا والسوريين الأوهام، لا بد من الاعتراف بأن هذه المهمة قد أصبحت بالغة الصعوبة راهناً نتيجة جرائم النظام الفظيعة؛ وبفعل إخفاق المعارضة السورية في عملية التوحد والتمسك بالأولويات الوطنية السورية.
ولعله من نافل القول أن نشير هنا إلى أن هذه الأولويات لا تتعارض مع واقع تقاطع المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، ولكنها تكون بمثابة المحدّدات التي تمنع تحوّل السوريين إلى بيادق في مشاريع الآخرين.
القدس العربي