سورية والمنطقة في انتظار الاستراتيجية الأميركية الجديدة
عبد الباسط سيدا
ونحن على أعتاب العام الجديد، 2021، نرى أن الوضع السوري قد بات جزءأ من الوضع العام للمنطقة، وذلك نتيجة الاندماج الذي تم بينه وبين المشاريع الإقليمية والحسابات الدولية، والاصطفافات التي تبلورت شيئاً فشيئاً، وتحدّدت ملامحها بصورة واضحة في يومنا الراهن، بعد مرور نحو عشرة أعوام على انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011. فمن جهة النظام، لا يمكن الحديث عن أي تحول أو تغيير أو تعديل في السلوك، وفق المطلب الأميركي، يمكن أن يحصل، من دون أخذ العاملين الروسي والإيراني بعين الاعتبار. ومن جهة المعارضة، أو على صعيد المناطق الخارجة بهذه الدرجة أو تلك عن سيطرة النظام، فالتأثير موزّع بين الأميركان في منطقة شرقي الفرات والأتراك في المناطق الشمالية الواقعة إلى الغرب من الفرات حتى حدود المنطقة الساحلية حيث النفوذ الروسي مع النظام. أما المنطقة الجنوبية، فهي غير مستقرة، على الرغم من الصفقات التي تمت بوساطة روسية؛ وذلك مردّه تأثير الفاعل الإسرائيلي، مع مراعاة الوضع الأردني. هذا إلى جانب صعوبة إقناع السكان هناك بالعودة الكاملة مجدّداً إلى حظيرة الاستبداد الأسدي.
إلا أن الجميع في انتظار الاستراتيجية التي ستعتمدها الإدارة الأميركية الجديدة، الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن، الأكثر خبرة من الرئيسين السابق والأسبق، والأكثر معرفةً بأحوال المنطقة وعقدها المستعصية؛ ومن بينها موضوع النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والموضوع الكردي، والمشاريع الخاصة بكل من إيران وتركيا، ونزوعهما نحو التوسع، بهدف استخدام ورقة الانتصارات الخارجية في حسابات الداخل.
منطقتنا بأسرها في انتظار تبلور ملامح الاسترتيجية الأميركية الجديدة، وذلك بعدما تفاقمت الأزمات في معظم دولها، وانسدت الآفاق في مختلف الأنحاء، فالمشروع الإيراني الذي اعتمد سياسة استغلال المذهب، للتوسّع في مجتمعات المنطقة، بلغ ذروته، بعدما أوجد جدراناً من الهواجس والشكوك والترقب بين الشيعة ومجتمعاتهم الوطنية في كل دولة في المنطقة. وقد جاءت المظاهرات التي شهدتها مدن جنوب العراق وبغداد، أي المناطق التي يمثل الشيعة فيها الأغلبية الساحقة، لتؤكّد عودة الروح الوطنية العراقية، وعدم الرغبة في الاستمرار مع المشروع الإيراني الذي لم يجلب للعراق عموماً، وللمناطق الشيعية على وجه التخصيص، سوى التخلف والفاقة والمشكلات الخدمية، والتراجع الشمولي في كل شيء.
أما في لبنان، فالوضع الكارثي ما زال سيد الموقف، على الرغم من الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس الفرنسي ماكرون، وفي انتظار الزيارة الثالثة التي يبدو أن كورونا لم توافق عليها، وعلى الأرجح ستكون هي الأخرى عديمة الجدوى، طالما أن كل طرفٍ متمترسٌ في خندقه، ينتظر ما سيقدم عليه سيد البيت الأبيض الجديد.
وتركيا بعدما نسّقت مع الروس والإيرانيين في مسار أستانا الذي مكّن النظام من العودة إلى معظم المناطق السورية، تدرك الآن أن المطلوب منها هو إدلب، وهي ليست مستعدّة للتخلي عن هذه الورقة القوية التي ما كان لها أن تحتفظ بها لولا الضوء الأخضر والرغبة الأميركيان، تماماً مثلما كان عليه الحال بالنسبة إلى دخولها إلى مناطق الباب، وأعزاز، وعفرين، وتل أبيض، وسري كانيي/ راس العين، وغيرها. والأمر ذاته بالنسبة لدورها في كردستان العراق، وتواصلها مع القوى السنّية العراقية، وهجماتها المستمرّة على قواعد حزب العمال الكردستاني هناك.
وما نعتقده في هذا المجال هو أن هذا الدور أيضاً يتم بناء على ضوء أخضر أميركي، في سياق ضبط توازن المعادلات في المنطقة. ولكن هل سيستمر مفعول الضوء الأخضر الترامبي في عهد بايدن، أم أن قواعد اللعبة ستتغير، وذلك تبعاً لموقع تموضع تركيا من الاستقطابات الدولية والإقليمية في المنطقة، واستناداً إلى أولويات الإدارة الأميركية الجديدة؟
أما روسيا التي يبدو أنها قد حصلت على ضوء أخضر أميركي – إسرائيلي بالبقاء في سورية، فهي تدرك أن المهمة ليست سهلة، وتعرف جيداً أن معادلات المنطقة تشمل سورية أيضاً. لذلك تستعد، هي الأخرى، لمعرفة توجهات الإدارة الأميركية الجديدة، وهي تخشى، في الوقت ذاته، من أن يشغلها الموضوع السوري أكثر من اللازم، في وقتٍ تشتد فيه المنافسة بين القوى الدولية حول مناطق أخرى هامة من العالم، الأمر الذي قد يجعلها في قائمة المتأخرين.
ومن بين المنتظرين إسرائيل أيضاً، على الرغم من علاقتها العضوية مع الولايات المتحدة، ومعرفتها اليقينية بأن أمنها، ومهمة الدفاع عنها، يأتيان على رأس قائمة أولويات كل رئيس أميركي، فهي قد حققت نتائج متقدّمة على صعيد التطبيع مع دول عربية عديدة، ولكنها لم تتمكّن بعد من تجاوز أزماتها الداخلية، وهي تدرك أن موضوع السلام مع الفلسطينيين استحقاق سيواجهها باستمرار، مهما تجاهلت وسوّفت؛ كما أن موضوع النووي الإيراني يظل الهاجس الذي يؤرّقها؛ لذلك تظل في حاجةٍ ماسّة إلى معرفة توجهات كل إدارة أميركية جديدة وأولوياتها.
ماذا عن السوريين أنفسهم؟ وماذا عن بلدهم الذي توزّع بين مناطق نفوذ متعدّدة الجنسيات، وبات مرتعاً للجيوش الأجنبية، والمليشيات الوافدة المتعدّدة الألوان والمشارب والأهداف، وتتعرّض موارده البشرية والمادية للاستنزاف هنا وهناك؟ هنا تتباين المواقف، وتكثر التحليلات المنسجمة مع رغبة هذه الجهة أو تلك، فمنهم من يرى أن إدارة بايدن ستنفتح على الإيرانيين، وهذا ما سيمكّن هؤلاء من الاستمرار في مخطّطاتهم التوسعية في المنطقة. ومقابل هؤلاء هناك من يرى العكس، ويعلن أن المهمة التي نفذتها إيران، تحت شعارات المقاومة والممانعة، قد بلغت مداها الأقصى، بعدما تمكّنت من خلخلة مجتمعات المنطقة ودولها؛ وساهمت في دفع دول المنطقة نحو شراء الأسلحة بمليارات الدولارات، وشرعنت عمليات التطبيع بالنسبة إلى دول عربية عديدة. لذلك ربما يكون الوقت قد حان لإعادتها إلى دائرة الاحتواء المضمون، مع بعض جوائز الترضية التي لا تمنحها كل ما تريد، ولكنها لا تصادر دورها ضمن حدود المسموح به؛ وهو دور يبدو أنه سيكون مطلوباً من حين إلى آخر.
السوريون في معظمهم، بعدما خذلهم الأصدقاء والأشقاء، كلٌّ لحساباته وهواجسه الخاصة، باتوا أصحاب “عقلية مسيانية”، ترى في انتظار القادم الأميركي ملاذها وأملها. هذا مع المعرفة المسبقة لهذا المعظم بأنه ما لم يكن هناك حدٌّ أدنى من التوافق والتماسك بين السوريين المناهضين لاستبداد نظام بشار وفساده، فإن هذا الأخير سيتمكّن، بدعم مستمر من حلفائه الثابتين، من تجاوز عنق الزجاجة، والاستمرار في الحكم المستبد. كما أن النظام ذاته يستمد العون والمساندة من الدعوات المطالبة بالانفتاح العربي عليه، ودعم مشاريعه في ميدان إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين. وهي مشاريع مفصّلة وفق مقاساته ومقاسات راعيه الروسي، الذي يمنّي النفس بالاستثمارات في سورية، وحتى في الدول العربية الغنية، لقاء الدور الذي قام، ويقوم به في سورية.
الواقع الحالي للمعارضات الرسمية، والتراجعات، إن لم نقل الانهيارات المستمرّة التي تتعرّض لها لأسباب ذاتية في المقام الأول، لا يوحي، بكل أسف، بأي إمكانية لمواجهة ما يجري. وخارج إطار هذه المعارضات، هناك مناقشة وحوارات كثيرة يجريها السوريون في الداخل والمهاجر، ولكنها لم تؤدّ بعد إلى النتائج المرجوّة. نحن في حاجةٍ ماسّةٍ إلى أفكار جديدة من خارج الصندوق، وفي حاجة إلى نواة صلبة متماسكة، متمسكةٍ بأولويات السوريين، مع حرصها على بناء أفضل العلاقات مع الجميع، على أساس تبادل المصالح والاحترام.