طريق الحرير وتداعياته السياسية
دوران ملكي
طريق الحرير لقب أطلِق على جميع الطرق المترابطة التي كانت تسلكها القوافل والسفن بين الصين وأوروبا بطول ١٠آلاف كيلو متر والتي تعود بداياتها إلى حكم سلالة هان في الصين قبل الميلاد بمائتي عام وقد أطلِق عليه هذا الاسم من قبل جغرافي ألماني لأنّ الحرير الصيني كان يمثّل النسبة الأكبر للتجارة فيها.
في الآونة الأخيرة بدأت تظهر مصطلحات جديدة على شكل رؤىً دولية مثل رؤية ٢٠-٣٠ فما هي هذه الرؤى؟،
تعدّدت الرؤى فمنها الأوروبية والسعودية والإيرانية والباكستانية ويعود هذا المصطلح إلى العالِم مارتن جاكوز
الذي قال في كتابه “حينما تغزو الصين العالم” سيكون هناك نظام عالمي جديد وقد بدأ بالتشكّل وٱنّ النظام العالمي الغربي في ضمور ويجب على الدول الأوروبية تدارك هذه المعضلة وٱنّ الاقتصاد الصيني سوف يتسيّد العالم في الحقبة ٢٠-٣٠ وسيصبح ضعف الاقتصاد الأمريكي.
أدركت الدول الأوروبية هذه الحقيقة، فالرؤية الأوروبية بدأت تتبلور وخاصةً بعد جائحة كورونا، بدأت الشركات بالتوجّه إلى الطاقة النظيفة كبدائل للنفط وتشجيع صناعة السيارات الكهربائية، إذ صرّحت المستشارة الألمانية بأننا سنفتح الآلاف من مراكز إنتاج الطاقة النظيفة ومراكز التزوّد بالطاقة إلى جانب الآلاف من المراكز البحثية في مجال تطوير البطاريات الكهربائية.
كذلك الرؤية الباكستانية لـ٢٠-٣٠ فقد تمّ إنجاز المرحلة الأولى بإنشاء طرق برية وسكك حديدية لقطاراتٍ سريعة تربط الصين مع موانئ باكستانية على المحيط الهندي وتحديداً ميناء (كوادر) كذلك الرؤية السعودية الكويتية والتي بموجبها يتمّ تشييد مدن وموانئ ضخمة على الخليج والجزر السعودية في البحر الأحمر لاستقبال طريق الحرير. يا ترى لماذا قرّرت الصين إحياء هذا الطريق القديم؟
من أهم تصريحات الرئيس الصيني السابق (شي جين بينغ) كانت بشأن مضيق ملقة فقال : على الشعب الصيني تجاوز مأساة ملقة فما هي هذه المأساة؟
الصين تصدّر وتستورد عبر مضيق ضيق بين ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا بطول ٨٠٠كم يُدعى (مضيق ملقة) ولا يوجد طريق بحري آخر يصل إلى الصين غير هذا الطريق وتستورد ٨٠ بالمائة من النفط عبر هذا الطريق وهذا المضيق تسيطر عليه القوات الأمريكية وتوجد فيها قاعدة الجيش السابع الأمريكي وهي أضخم قاعدة أمريكية في العالم بإمكانها قطع الطريق متى ما شاءت لذلك فاجأ الرئيس الصيني الحالي منذ عام ٢٠٠٣ العالم بإحياء طريق الحرير وبدأت بالفعل باستئجار ميناء كوادر الباكستانية لمدة خمسين عاماً وميناء حيفا في إسرائيل وسيتمّ استلامها في العام القادم.
قدّمت الصين قروضاً مالية بفائدة من البنوك الصينية للدول التي يمرّ الطريق من أراضيها شريطة أن تقوم الشركات الصينية بتنفيذ المشاريع المتعلّقة بالسكك الحديدية والطرق وإنشاء الموانئ البحرية.
بلغ حجم هذه الاستثمارات منذ عام ٢٠١٣ ثمانين مليار دولار والمصارف الصينية قدّمت قروض تتراوح بين ١٧٥-٢٦٥ مليار دولار وقد تمّ إنجاز المشروع لحد الأن في باكستان وإيران ويتمّ العمل في ميناء الفاو في العراق.
بلغ حجم الاستثمارات الصينية في إيران ٤٠٠ مليار دولار وفي العراق٤٥٠ مليار دولار وتخطّط الصين لنقل الغاز من الخليج إلى ميناء كوادر الباكستانية ليتمّ نقلها الى الصين عبر انابيب كذلك إلى بناء قواعد عسكرية عديدة لحماية موانئها ومصالحها الحيوية.
ولكن ما الذي يؤرّق الغرب من هذا الطريق؟
يعود القلق الغربي إلى المنتجات الصينية زهيدة الثمن بسبب التكلفة المنخفضة للإنتاج وبذللك تملك قدرةً تنافسية كبيرة والشيء الأخر هو ٱنّ الصين تقدم قروض لأكثر من ستين دولةٍ تمرّ الطريق من أراضيها وتشترط على التعاقد الإلزامي مع الشركات الصينية مما يزيد من فرص التنمية الاقتصادية ويزيد بذلك الهيمنة السياسية بالإضافة إلى شيء أساسي ومهم وهو ٱنّ الأسواق الصينية مغلقة تماماً أمام الاستثمارات الغربية وبذلك لا تستطيع الشركات الغربية الاستفادة من الأسواق الصينية الكبيرة وما يؤرّقها أكثر هو استثمار الصين في مجالات حيوية مهمة جداً مثل المجالات النووية وصناعة الطائرات والإلكترونيات ونشر شبكة الجيل الخامس من الأنترنيت والتي ترفضها الولايات المتحدة الأمريكية مطلقاً تحت دافع استخدامها ،للصين، في مجالات التجسّس.
استفادت الصين من الضعف الاقتصادي لكثيرٍ من الدول الأوروبية مثل اليونان وإيطاليا ووجود خلافات اقتصادية في الاتحاد الأوروبي، فاستغلّت الصين هذه الخلافات ونجحت في الاستحواذ على٥١ بالمائة من ميناء بريوس قرب العاصمة اليونانية أثينا ولكن الضربة الأنجح هي طرق أبواب إيطاليا إذ رحّبت إيطاليا بالاستثمارات الصينية لدعم اقتصادها المتدهور منذ ٢٠١٨ ولكن السبب الباطن يعود إلى أنّ الصين في حربٍ اقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا وبسبب هذا المشروع سيكون لها رصيد اقتصادي في القارات الثلاثة وستجني أرباحاّ هائلة لأنّ أكثر من ستين دولةّ ستكون مديونة للصين بمليارات الدولارات وبذلك تحاول السيطرة على العالم.
يصطدم المشروع الصيني بالمصالح الأمريكية والأوروبية لذلك يضعون العراقيل في طريق المشروع الذي يغيّر وجهة العالم من الغرب إلى الشرق.
يُعتبر المفصل السوري والعراقي مهمّان لذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إلى التدخّل عسكرياً لإفشال مخططات إيران الرامية إلى بناء الهلال الشيعي وبذلك سيتمّ حماية طريق الحرير الذي يمرّ من أراضيها وأراضي دول الهلال الشيعي.
تأسّس الحشد الشعبي في العراق بإيحاءٍ من إيران إبان الحرب على الإرهاب وكلّفت آنذاك قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي قُتِل على يد القوات الأمريكية بالإشراف المباشر على هذه المليشيات وكان مثل المكوك الطائر ينتقل من مكانٍ إلى أخر في سوريا والعراق ففي البداية دفع بهذه المليشيات للسيطرة على مناطق التواجد السنّي تحت ذريعة مواجهة الإرهاب ومن ثم السيطرة على المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم كُردستان وخاصةً كركوك وسهل نينوى وسنجار ليتمّ ربطهم بمحافظة صلاح الدين والموصل ومن هناك وعبر تواجد مليشيا حزب العمال الكُردستاني في كلٍّ من سنجار وشرقي الفرات في كُردستان سوريا والتي تحظى بعلاقاتٍ استراتيجية مع إيران والحشد الشعبي إلى الأراضي السورية بالإضافة إلى ذلك سعى قاسم سليماني إلى تقسم إقليم كُردستان إلى إقليمين منفصلين يضمّ الأول محافظتي السليمانية وكركوك والثاني أربيل ودهوك بالاتفاق مع بعضٍ من قيادات الاتحاد الوطني والذين كانوا الأساس في سقوط كركوك بيد الحشد وبذلك يستطيع تأمين الطريق إلى الحدود السورية وفي الداخل السوري سعى إلى إجراء مفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية ونظام بشار بالاستعانة بقيادة pkkفي جبال قنديل ويتمّ بموجبها منح بعض الصلاحيات الإدارية والثقافية وضمّ بعضٍ من قوات سوريا الديمقراطية إلى الجيش السوري النظامي وبذلك تؤمّن ايران السيطرة على الطريق الدولي M4 الذي يربط العراق مع كامل الأراضي السورية وسكة الحديد التي تربط بغداد بدمشق وحلب واللاذقية.
وقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في وجه المخطط الإيراني وتضييق الخناق على المشروع الإيراني الصيني الذي يربط إيران مع البحر المتوسط وذلك بالضغط على فصائل الحشد الشعبي وتجريدها من ٱسلحتها وحصر السلاح بيد الحكومة الفيدرالية وخاصةً بعد الانتهاء من العمليات الأساسية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية بواسطة دعم حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورٱب الصدع بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم كُردستان والتي تُوّجت باتفاقية سنجار التي تنصّ على طرد المليشيات من سنجار وتسليم أمنها إلى الشرطة الاتحادية والبيشمركة كمرحلةٍ أولى ولتتبعها سهل نينوى ومن ثم محافظة كركوك وبالتوازي مع هذا تجري نشاطات قوية في الأوساط السنية العراقية للمطالبة بالكونفدرالية أسوةً بإقليم كُردستان وخاصةً بعدما ثبت وجود كمياتٍ كبيرة من الغاز في مناطق الأنبار وتحظى هذه الخطوة بمباركةٍ غربية وخليجية لتضييق الخناق على المدّ الإيراني من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى تحويل مسار طريق الحرير إلى دول الخليج وإذا تطوّرت الأوضاع في العراق بين النفوذ الأمريكي والإيراني ستلجأ الولايات المتحدة وحسب ما تدلّ المؤشّرات إلى تثبيت نتائج استفتاء ٢٠١٧ في الإقليم والمناطق المتنازع عليها في هيئة الأمم المتحدة لتؤدّي إلى استقلال الإقليم عن العراق. في سوريا وتحديداً شرق الفرات حيث منطقة النفوذ الأمريكي تسعى الولايات المتحدة لتشكيل مرجعيةٍ كُردية بين المجلس الوطني الكُردي وأحزاب الوحدة الوطنية وبإشراف موظّف من وزارة الخارجية الأمريكية تمهيداً لضمّ باقي مكوّنات المنطقة وتشكيل إدارةٍ مشتركة من كافة المكوّنات لإدارة المنطقة بإشرافٍ أمريكي وتحظى بموافقةٍ ضمنية تركية لعلّها تمنع وصول طريق الحرير إلى موانئ على البحر المتوسط دون المرور من مضيق البوسفور وكذلك تقويض نشاط حزب العمال الكُردستاني في كُردستان سوريا.
ٱما في غرب الفرات تسعى الولايات المتحدة إلى طرد فصائل حزب االله اللبناني من محيط دير الزور والحدود العراقية السورية عن طريق تهيئة فصائل المعارضة السورية في منطقة التنف وفي ناحية الشدادي شرق الفرات من المكوّن العربي ليتمّ الهجوم على مدينة البو كمال من الشرق والغرب وبمساعدة طيران التحالف وبذلك تقطع الطريق على إيران براً وتمنع الصين من الحصول على الطرق المختصرة.
المنطقة أمام تغيرات جيوسياسية مهمة ربما تؤدّي إلى خرائط جديدة تبعاً لمصالح الدول ذات الشأن وخاصةً بعد توجّه أنظار جميع الدول في الشرق إلى المشروع الصيني الحيوي ورؤية ٢٠-٣٠ والذي يربط العالم بشبكةٍ من العلاقات الاقتصادية بدءاً من الصين وأنتهاءً بـ لندن والتي يرى فيها الكثيرون من الشرق والغرب كعلاجٍ لأزماتهم الاقتصادية.