ربيع الجزيرة السورية المترقِّب
عبدالباسط سيدا
الجميع في منطقة الجزيرة السورية، سواء بمعناها المحدود (محافظة الحسكة)، أو الواسع في القسم الغربي من الجزيرة الفراتية/ منطقة شرقي الفرات (محافظات الحسكة ودير الزور والرقة)، في انتظار تبلور ملامح الآتي الذي يثير الكثير من الهواجس والقلق، ويتسبب في حالة ضياع لا تطمئن سكان الجزيرة الذين يعانون من وضع معيشي بائس، كما يعانون من غياب شبه تام للخدمات الضرورية، وتراجع مرعب في النظام الصحي. أما القطاع التعليمي، فقد بات، خاصة بالنسبة إلى الكرد، أشبه بدورات محو الأمية بفعل مناهج تفتقر إلى أبسط المعايير التربوية والمعرفية؛ فضلا عن غياب الكوادر التدريسية المؤهلة. هذا إلى جانب عدم وجود أي جهة وطنية أو إقليمية أو دولية تعترف بشهادات الخريجين من الكرد، الأمر الذي سيكون مؤداه جيش من أنصاف المتعلمين لينضموا إلى العاطلين عن العمل، ويصبحوا هدفاً للتجنيد السفربرلكي الذي بات كابوساً أنهك، وينهك، الناس؛ ودفع، ويدفع، بالكثيرين منهم نحو الهجرة انقاذاً لأبنائهم وبناتهم من تجنيد تفرضه عليهم سلطة لا تمتلك أية شرعية. كما أن الكثيرين من الناس يخرجون بهدف انقاذ أبنائهم من الأمية المحتمة، طالما ظلت الأمور على حالها.
ومن حين إلى آخر، يجري الحديث عن مناوشات بين قوات النظام وتلك التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي- الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التي اتخذت اسم قوات سوريا الديمقراطية، وذلك في سياق سعي متواصل من الحزب المذكور لافراغ كل المصطلحات من مضامينها، وتحويرها، والاكتفاء باستخدام بريقها الوطني أو الديمقراطي في اللعبة الإعلامية التضليلية التي قد تنطلي على بعضهم، أو يتعامل معها بعضهم بايجابية ما دامت لا تؤثر سلباً في الحسابات الخاصة بهم.
في انتظار تبلور معالم السياسة الأمريكية الخاصة بسوريا، تسعى مختلف الأطراف المتواجدة على أرض الجزيرة لترتيب أوراقها، وتحصيل المزيد من النقاط استعداداً لما ستركز عليه الإدارة الأمريكية الجديدة في تعاملها مع الملف السوري الذي بات بهذه الصورة أو تلك ملحقاً من وجهة نظر الجانب الأمريكي بالملف العراقي، وربما بالملفات الأوسع، ومنها ملف العلاقة مع إيران، ومستقبل المنطقة باسرها.
فالروس من جانبهم يحاولون تعزيز مواقعهم، ويسعون من أجل دفع الأمور نحو المزيد من التفاهمات بين إدارة حزب العمال الكردستاني والنظام السوري عبراللقاءات التي تمت، وتتم، سواء في قامشلي أم في دمشق. كما أنهم يحرصون من حين إلى آخر على إظهار وجودهم في المنطقة من خلال الدوريات التي يقومون بها في بعض المناطق بمفردهم؛ وفي مناطق أخرى يخرجون في دوريات مشتركة مع الجانب التركي؛ وكل ذلك في إطار تفاهمات أستانا من جهة، والتنسيق الميداني مع الأمريكان وقوات قسد من جهة أخرى.
وفي المقابل، تسعى القوات التركية بالتحالف مع الفصائل العسكرية السورية التابعة لها لتوسيع نطاق سيطرتها، وتعزيز وجودها في منطقتي تل عيسى وتل تمر، هذا إلى جانب وجودها في تل أبيض وسري كانيي/ رأس العين. بينما تحاول قوات النظام تحاول هي الأخرى اعتماداً على الروس إثبات وجودها في المنطقتين المعنيتين وغيرهما من المناطق، بهدف الادعاء ولو بسيادة شكلية عليها، الأمر الذي سيستخدمه النظام في مسرحية إعادة التجديد لبشار الأسد.
وفي المقابل، تسعى القوات الإيرانية والميليشيات المرتبطة بها إلى تجنيد عناصر من السكان الملحيين، ومن ميليشيات “الدفاع الوطني” المرتبطة بالنظام أصلاً، لاستخدامها في عملياتها في منطقة البوكمال بهدف تأمين ممر بري دائم بين سوريا والعراق، يوفر للقوات المعنية المزيد من حرية الحركة، وتحاشي المراقبة والضربات الجوية. وهي تستغل حاجات الناس التي تدفع بالكثيرين منهم نحو الانضمام إلى مختلف الميليشيات رغم عدم اقتناعهم بأهدافها ومشاريعها؛ حتى أن الكثيرين قد غيروا المذهب نتيجة جهود التبشير والإغراءات التي يقوم بها، ويقدمها، الإيرانوين في تلك المناطق، وذلك في سياق سياستهم القديمة – الجديدة التي تقوم على أساس استغلال المذهب في مشروعهم التوسعي الإقليمي، وهو المشروع الذي لم تعد أهدافه خافية على أحد.
من جهة أخرى، يبدو أن المباحثات بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” والمجلس الوطني الكردي لم تصل حتى الآن، ولن تصل على الأغلب، إلى نتيجة ملموسة، وذلك بناء على المؤشرات والمعطيات الحالية. فالحزب المعني هو كما أسلفنا امتداد عضوي لحزب العمال الكردستاني الذي يتحكم كوادره بكل مفاصل الإدارة الذاتية التابعة للحزب المعني بواجهاته المختلفة.
وهو على الأغلب لن يفسح المجال أمام المجلس الوطني الكردي السوري لأي شراكة حقيقية في الإدارة والقرارات، خاصة في ظل التراخي الأمريكي المفهوم الذي يتعامل مع الوضعية في المنطقة برمتها تعاملاً آنياً وظيفياً مرحلياً، يستخدم أوراقها للضغط في الموضوع العراقي، والاستعداد لتفاهمات قد تكون على الأغلب مع الجانبين الإيراني والتركي حول صياغة معادلات جديدة لتوزنات المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار الموقف الإسرائيلي. وكل ذلك لن يكون بعيداً عن التفاهم التكتيكي مع الروس.
ولا نذيع سراً هنا إذا ما قلنا أن المجلس الوطني الكردي قد منح الحزب المعني الشرعية الكردية السورية لتواجد حزب الاتحاد الديمقراطي وتحكّمه في المناطق الكردية السورية، التي مكنته لاحقاً من الامتداد نحو المناطق العربية في الرقة ودير الزور وباقي محافظة الحسكة بعد أن صار جزءاً من الحملة الدولية لمحاربة داعش التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية. فالحزب المعني كان يمتلك أسباب القوة المادية نتيجة دعم النظام له بكل الأشكال منذ اليوم الأول لدخوله الساحة الكردية السورية صيف عام 2011. إلا أنه كان يفتقر إلى الشرعية الكردية السورية التي حاز عليها بدءا من اتفاقية هولير صيف عام 2012. هذا مع أهمية الإشارة هنا إلى أن هذه الاتفاقية، وغيرها من الاتفاقيات مع الحزب المعني، ظلت حبرا على ورق نتيجة إصرار هذا الأخير على التفرّد، والحرص على إبعاد كافة المنافسين المحتملين.
منطقة الجزيرة هي أولاً وأخيراً جزء من الوضعية السورية العامة؛ وستظل أوضاعها متشابكة مضطربة طالما أن الموضوع السوري العام لم يجد طريقه إلى الحل؛ ولهذا ينتظر الجميع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة الخاصة بسوريا.
هل سيكون الموضوع السوري خارج نطاق الأولويات الملحة راهناً بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية، وهذا ما تم استنتاجه من تجاهل الرئيس جو بايدن للموضوع السوري في خطاب التنصيب؟ أم أنه سيكون هناك سعي للمزيد من التشدد والتضييق على النظام، وأن الإدارة الديمقراطية الجديدة التي يقودها بادين لن تكون نسخة طبق الأصل عن إدارة أوباما رغم تقاطعها معها في الكثير من التوجهات الأساسية. ويُشار في هذا السياق إلى ما ذهب إليه وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن أمام مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح في يوم الاثنين الفائت 22-2-2021 بخصوص ضرورة معاقبة من لا يلتزم بالمعايير الدولية باستخدام الأسلحة الكيميائية، وتأكيده استخدام نظام بشار الأسد لهذا السلاح مراراً ضد شعبه. كما كان من اللافت اتهامه لروسيا بأنها قد حمت النظام بالمساعدات الدبلوماسية والعسكرية، ومكّنته من مواصلة سلوكه المدمر.
كما أن الضربة الأمريكية الأخيرة (25-2-2021) لمواقع ميليشيات تابعة للنظام الإيراني في شرق سوريا على الحدود العراقية، تؤكد عدم تساهل إدارة بايدن مع التصعيد الإيراني الأخير في العراق، وهو التصعيد الذي تجلى في الصواريخ التي أُطلقت على أربيل والمنطقة الخضراء في بغداد.
هل نحن أمام سياسة جديدة تضع النقاط على الحروف؟ أم أنها وسيلة جديدة من وسائل الضغط العديدة التي تستخدمها الإدارة في سياق تعاملها مع الملف الإيراني؟
ولكن مهما يكن، وبغض النظر عن المواقف والتحركات الإقليمية والدولية، فإن منطقة الجزيرة السورية تظل مفتاح الوحدة الوطنية السورية. فإذا تمكّن سكانها من جميع الانتماءات عبر قواهم وفعالياتهم وشخصياتهم الوطنية من تجاوز الفتن التي تُحاك لهم؛ واستطاعوا مجدداً تأكيد تفاهمهم وحرصهم على العيش المشترك القائم على القبول بالآخر المختلف ضمن إطار الوحدة الوطنية المبنية على احترام الخصوصيات والحقوق، مع الحرص على تحسين قواعد العيش المشترك التي تضمن حقوق الجميع من دون أي اسثناء أو تمييز؛ فهذا سيساهم كثيراً في عملية معافاة النسيج الوطني السوري العام الذي ينبغي أن تكون مسألة ترميمه، وإعادة بنائه على أسس قويمة، أولوية الأولويات الي لا بد أن تعطى الاعتبار الرئيس من قبل سائر القوى والشخصيات الوطنية السورية الحريصة على مصير شعبها وبلدها، ومستقبل أجيالها المقبلة.
القدس العربي