آراء

سورية بين ثورة الشعب ومؤامرة النظام

عبد الباسط سيدا

هل ما يحدث في سورية منذ عشرة أعوام ثورة أم مؤامرة؟ سؤال مركّب، يتضمن محورين رئيسين، تتمفصل حولهما المناقشات والجدالات. كما تتوزّع بينهما حجج النظام وأتباعه والمرتبطين به، والمستفيدين منه، وأنصاره ورُعاته على المستويين، الإقليمي والدولي، وتلك التي تخص المناهضين للنظام من السوريين من جهة أخرى، وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة، ثاروا على نظام الفساد والاستبداد بصورة علنية، وتحمّلوا نتيجة مواقفهم. أما الصامتون الذين لم تسمح لهم ظروفهم، وربما تقديراتهم واعتباراتهم الخاصة، بالتعبير عن مواقفهم صراحة، فهم أيضاً يدركون تماماً الإدراك أن النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد؛ ولن تتعافى سورية بوجوده.

يدّعي النظام وأتباعه ورعاته أن سورية كانت بألف خير، كانت مستقرّة، وكان الناس “عايشين” كما يقال، على الرغم من الصعوبات التي كانت بسبب نهج “المقاومة والممانعة” و”الصراع مع العدو الإسرائيلي”، وتعرّضها “للضغوط والعقوبات من أميركا وعملائها من دول المنطقة”. ما زال هذا الخطاب معتمداً من نظام بشار وأتباعه من قوميي محور “المقاومة والممانعة” ويسارييه وعلمانيّيه، كما أن هذا الخطاب هو الذي يستخدمه النظام الإيراني مع مليشياته في سورية ولبنان والعراق واليمن.

أما ملفات الفساد الكبرى الخاصة بالعائلات المافياوية التي ما زالت تتحكّم بالسلطة والثروات منذ ما قبل الثورة، ومعاناة أكثر من نصف السوريين قبل الثورة من الحاجة والفقر، واستبداد الأجهزة الأمنية، وتنكيلها بالسوريين، وتحوّل الأحزاب والمنظمات الشعبية إلى مجرّد واجهة تزيينية للسلطة المتوحشة، وتحكّم تلك الأجهزة بمفاصل الدولة والمجتمع، وتدخلها في أدق تفاصيل الناس، بدءا من مسألة الحصول على العمل أو الترخيص لأي عمل، أو أي عقد بيع وشراء، وحتى موافقات السفر .. إلخ.

أما مسائل حرية التعبير والنشر، وتأسيس الجمعيات والأحزاب فقد كانت من المحظورات، حتى في مجال التعبير عن المطالبة بها. وعن الاستقرار المزعوم، فقد كان بفعل أساليب القمع والتدجين، حتى وصل أهل الحكم إلى قناعةٍ زائفةٍ مفادها بأنهم قد أصبحوا في منأى عن أي تهديدات، وبات في مقدورهم سن القوانين، وإصدار المراسيم، بل الدساتير، المفصّلة وفق حساباتهم. فثبّت حافظ الأسد، في دستوره المادة الثامنة التي نصّت صراحة على قيادة حزب البعث الدولة والمجتمع، أي أنه ثبت قيادته الشخصية باعتباره القائد الملهم لذاك الحزب. كما أصدر قانون 49 لعام 1980 الذي نصّ على إعدام كل من يثبت انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين. وأصدر نجله بشار المرسوم 49 لعام 2008 الذي حوّل مناطق واسعة في المحافظات الشرقية، خصوصا في محافظة الحسكة، إلى مناطق تخصع لإجراءات استثنائية تستوجب الحصول على موافقات معقدة من مختلف الأجهزة الأمنية والوزارات في عمليات بيع العقارات والأراضي الزراعية وشرائها، بحجّة أنها مناطق حدودية، الأمر الذي كان يعني، بطبيعة الحال، خنق هذه المناطق، وسد كل المنافذ أمام إمكانية حلحلة اقتصادية في ميدان العمران، وسوق العقارات، وهي المناطق التي كانت أصلاً مهملةً مهمشةً من النظام، بل كانت ميداناً للنهب الذي كان يمارسه المسؤولون الأمنيون وشركاؤهم هناك.

أما لعبة توريث الجمهورية التي شارك فيها أركان النظام، بمن فيهم من تركه لاحقاً، تحت تهديد أرباب الأجهزة الأمنية، فهي قد باتت وشماً يُعرف به نظامٌ يتبجّح حاكمه الوارث بالعفة والشعارات الكبرى التي كانت، وما زالت، مجرّد قنابل دخانية استخدمت للتمويه على ما كان يجري في الداخل من قمعٍ للحريات، وسلب ونهب للثروات، وتسطيح للعقول والضمائر.

ولم يكتف هذا النظام بسطوته على الداخل السوري وحده؛ بل مارس العنف والإرهاب بكل الأساليب لإزاحة المعارضين اللبنانيين الذين كانت ينتقدون تغلغل النظام السوري في الدولة والمجتمع اللبنانيين، وذلك بالتنسيق مع النظام الإيراني. حتى تمكّن حليفه، حزب الله، من التحكّم بالدولة اللبنانية، ومكّن الفاسدين الذين أجهزوا على الاقتصاد اللبناني الذي يترنّح اليوم محتضراً، ما لم تحدُث معجزة ما. كما تَشَارك النظام نفسه مع النظام الإيراني في تفجير الأوضاع في العراق؛ لمصادرة أي احتمالية لنموذج حكم ديمقراطي، ولو في حدوده الدنيا، في العراق، وذلك لتيقّنه من أن رياح التغيير ستمتد من العراق إلى سورية أيضاً، لأسباب كثيرة، منها النقمة الشعبية على حكم “البعث”، واستبداد الزمرة الحاكمة وفسادها. ولذلك نرى أن الحملة الديماغوجية التي قادها النظام، وألزم أتباعه والمنتفعين منه، وتدّعي أن هناك مؤامرة كونية على سورية، ما هي إلا واحدة من وسائله المعهودة لتسويغ حربه على الشعب السوري، عبر تسويق أكذوبة محاربته الإرهاب، وهو النظام الذي اعتمد الإرهاب أداةً لقمع السوريين في الداخل. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى ما فعله في حماة عام 1982، وفي القامشلي عام 2004؛ هذا فضلاً عن حالات البطش بالمعتقلين في سجونه وأقبيته التي كانت دائما مكتظةً بالمنتقدين والمعارضين لسياساته وممارساته.

لن ندخل هنا في المماحكات والتعريفات النظرية الخاصة بضبط مفاهيم الثورة والانتفاضة والحراك الشعبي، وغيرها من المفاهيم اللغوية التي تستخدم في هذا المجال. وإنما نتاول الوقائع التي حدثت على الأرض، على أن يحدّد المنظرون والمفكرون المصطلح المناسب لبيان ماهية ما حدث ويحدث في سورية منذ مارس/ آذار 2011.

لقد تمكّن الشعب السوري، بفطرته السلمية، ومنذ اليوم الأول، من تحديد خياراته الوطنية، فكان التركيز على الوحدة الوطنية السورية، واحترام التنوّع السوري، وطالب بالقطع مع كل أشكال التعصب، سواء الديني أم القومي أم الأيديولوجي، وتعرية شعارات المقاومة والممانعة. كما كانت المطالبات الشعبية العارمة بإنهاء سلطة الاستبداد والفساد، وإتاحة الفرصة أمام المواطنين السوريين لممارسة حرياتهم في ميادين التعبير والنشر، والاستفادة من الموارد، وتأمين العدالة الاجتماعية عبر توفير فرص العمل للناس، والاهتمام بمناطق الأطراف التي اُهملت وهُمشت عقودا، واستخدام موارد البلد في مشاريع تنموية لصالح جميع السوريين.

كل هذه المطالبات كان السوريون يرفعونها، ويضحّون في سبيلها؛ ولكن النظام هو الذي تآمر مع رعاته الإيرانيين، خصوصا في البدايات على مظاهرات السوريين واحتجاجاتهم السلمية، ودفع بها نحو الحرب الداخلية الطائفية البغيضة، حينما فتح البلاد أمام المليشيات المذهبية التابعة للنظام الإيراني، وفي مقدمتها مليشيات حزب الله. وهكذا تطوّرت الأمور إلى أن حصل التدخل الروسي عام 2015، والذي لم يكن له أن يحصل لولا التفاهم مع الجانبين، الأميركي والإسرائيلي. ثم كان التدخل التركي ابتداء من عام 2016، حتى أصبحت سورية مقسّمة بين جملة مناطق نفوذ، تتحكّم فيها جيوش دولية وإقليمية لها مليشيات، سواء من تلك الوافدة، أم المحلية التي تشكّلت من سوريين ألزمتهم الظروف بأخذ هذا التوجه أو ذاك.

نحن اليوم في مرحلة المراجعات الفكرية لما حصل، والتأسيس لمشروع وطني سوري، كان يبدو، قبل عشرة أعوام، وكأنه مجرّد طرح نظري طوباوي، ولكن التجارب القاسية علّمت السوريين، وأقنعتهم بأن المشاريع العابرة للحدود، بشعاراتها الدينية أو المذهبية أو القومية، لم تمكّن السوريين على مدن قرن من الاستقرار، ولم تحقّق لهم النهضة المطلوبة بأبعادها العلمية المعرفية والاقتصادية والتقنية. نهضة تمتلك سورية كل مقوماتها.

المناقشات التي تجري اليوم بين السوريين عبر مختلف وسائل التواصل واعدة، وكذلك الكتابات التي تُنشر، والأفكار التي تُطرح، والأعمال الفنية بمعناها الأوسع، التي تتناول الواقع السوري من جميع جوانبه. ملايين السوريين في الداخل والخارج ما زالوا على موقفهم المطالب بضرورة خروج بشار الأسد وزمرته من دائرة الحكم، لكن المطلوب أولاً توافق السوريين على بديل وطني يعيد الاعتبار للانسان السوري أولاً، ويرمّم النسيج المجتمعي الوطني السوري، قبل الحديث عن أية عملية إعادة إعمار يسيل لها منذ الآن لعاب مافيات الفساد المحلية والإقليمية والدولية.

وقد أدّت التراكمات التي كانت خلال السنوات العشر الماضية بسلبياتها وإيجابياتها، وستؤدّي، إلى تحوّلاتٍ كثيرة في المفاهيم والأفكار، بل وفي أدوات التفكير. ولم يعد هناك من ميدان محظور على النقد والتحليل والتفكيك، سواء على صعيد المفاهيم والأيديولوجيات، أم على صعيد طبيعة النظام وحقيقته، وماهية ما يتوخّاه السوريون. وقد كشفت الأعوام العشرة الماضية عن خرافات النظام ومزاعمه، خصوصا بشأن الإرهاب الذي فتح هو بنفسه البلاد أمامه، ليضع العالم أمام بديلين فاسدين. كما كانت العشرية السورية الكارثية كاشفاً أخلاقياً أماط اللثام عن قباحات كثيرين من القوميين والعلمانيين واليساريين من السوريين والعرب، وأوصلت سوريين كثيرين إلى قناعة تامة بأن المشاريع الإسلاموية السياسية بأسمائها المختلفة لا تناسب الواقع السوري، بل أضرّت الثورة كثيراً.

الثورة السورية مستمرة، وستستمر. وستجدّد نفسها من خلال فكر وطني ناضج، يمتلك الجرأة والقدرة على نقد الذات قبل الآخر؛ فكر يؤسّس لمشروع وطني سوري واقعي يطمئن الجميع، يكون حامله الاجتماعي ملايين الشباب والشابات من السوريين، ممن امتلكوا الخبرة والمعرفة في الداخل والخارج؛ وهم اليوم يتطلّعون إلى مستقبل أفضل لهم ولشعبهم وبلادهم، ولأجيالنا السورية المقبلة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى