في التدوين ونشأة التاريخ
وليد حاج عبدالقادر
يقول الرائع شيشرون : من لا يعرف التاريخ يبقى طفلاً أبد الدهر #
1 – 3
يكاد مدوّنو علم التاريخ البشري ؛ ومنذ بدايات التدوين وبطرائقها المختلفة أن يتفقوا في غالبيتهم على أمرٍ بات بديهياّ ، بأنّ اللغة كانت هي الوسيلة الأساس في نقل الموروثات ومكتسبات البشرية ، وإنها المعبر كانت – ولم تزل – في تحوّل البشرية وطرائق تمرّدها على الطبيعة وافتراقها ،لابل وتدرّجها هيمنةً على الحيوات الأخرى ، هذه اللغة التي اكتسبتها الإنسانية على مرّ عصورٍ زمنية عديدة ، والتي تمأسست أصلاً على قاعدة السعي لاكتساب مستلزمات البقاء، فكانت الإشارة التي يكاد غالبية باحثي الشأن الإنساني وأنماط تطوره يتّفقون بأنها – الإشارات – اكتسبت من خلال ملاحظة أصوات الحيوات الأخرى، وفي تقليدٍ ابتدات بإحساس ذلك الإنسان بمراحله الشاقة الحاجة في البحث والتقصّي للخروج من شرنقة الخضوع الإرادي للبيئة إلى التمرّد عليها ، وبالتالي الاستفادة من بيئته وتسخيرها بكلية لصالحه ، ومن البديهي أن يلاحظ في عملية صراع البيئة وتحكّم الأقوى ، أنّ يتلقّط مثلاً أصوات الطيور والحيوانات وردّات فعلها البيني ، هذا الأمر الذي تقاطع أيضاً من خلال تحولات نمط الحياة الفردية وبالتالي المجموعات ، ولعلّ أهم نقطة تحولٍ أسّست لمتغيراتٍ كثيرة كانت ، هي حالة الانفصام البدئي من نمط وأسلوب العيش والتحول من حالة التلقّط الى وسائل انتزاعها ، ومع التنافر البيئي بين الحيوات ، وتداخل ، لابل ، بداية تحول نمط التشارك البيئي إلى صراعاتها ، ومع بدء دخول – العقل البشري – مرحلة التنشط وبالتالي ابتداع وسائل فعلية عدّت ادوات حقيقية في خلق ومن ثم توفير بيئةٍ مهّدت وبقوةٍ لتغييرٍ كلّيٍ حتى في شكل الإنسان الذي – كأمرٍ يتفق عليه غالبية المدارس التاريخية – كان يقلّد في حركاته الجسدية الحيوات الأخرى ، حيث أثبتت كثير من جداريات الكهوف القديمة كيف أنّ قسماً من أوائل البشر كان ينطّ نطّاً وآخرون يقفزون على أربع وهلّم جرا ، ومع استعداد الصراع البيئي من جهةٍ ولضرورات الحاجة ، انتبه ذلك الإنسان البدئي وأيقن بأنه قادرٌ على الارتقاء الذاتي وفرض ارادته أيضاً من خلال تطويعه للبيئة ، هذه المتحولات التي أخذت بالبشرية إلى حقولٍ استكشافية – تطويرية طويلة جداً ، واكبتها مشاق ومعاناة وصراعات كانت حبلى بأخطار متتالية ، سواءً باحجامها وغموضها ، تلك الأخطار التي وصلت في مراحل كثيرة إلى درجة الاستهداف الوجودي للبشرية ، وفي مناطق عديدة اندثرت أو أبيدت مجاميع بشرية عديدة.
نعم ! لقد خاضت البشرية صراعاً وجودياً عبر تاريخه ، وكردٍّ عملي ومتوائم مع المتغيرات المعيشية ، والأهم ! وتوجّه تلك المجاميع في السعي المتدرج لاكتساب أدوات الهيمنة ومن ثم تطويع المحيط ، رافق ذلك متغيرات أساسية أيضاً بظهور متحولاتٍ انتقالية كبيرة ممهّدة ، لم تبتدئ مطلقاً من تحوّل الإشارات ومداخل الأصوات ومعها حركات أعضاء الجسد ومدلولاتها المعرفية ، ولتتدرّج في الارتقاء كلٌّ على حدة ، وفي عملية تطور مستمرّةٍ دامت وبالتتابع أحقاب زمنية طويلة ، ابتدات من ابتكار أدوات ساعدته في الهيمنة من جهة ، ومن خلالها ، لابل مع التجربة أخذ يطوّرها ، ليبتكر دائماً انواعاً جديدة ، تلك الأدوات كانت بيئتها البكر هي مصدرها سواءً من حجارةٍ أو عظام أو خشب وماشابه ، هذه الأمور وعبر مسيرةٍ تاريخية امتدّت لأزمانَ طويلةٍ ، ساهمت – بالأساس – في تطوّرٍ متدرّجٍ ومتنوّعٍ شمل الإنسان ككيانٍ وكفردٍ في التحوّل المتدرّج ابتدأت بالفرد الذي أخذ يستفرد في تطويع هيكليته وطرائق تفاعله مع مكتسبات البيئة ، التي واكبت كمثالٍ حالة الالتقاط من الأرض أن يتحرّك على قوائمه ، ولتتواءم لاحقاً في تفاعله مع – الأشجار مثلاً – فيقف على قدميه ليقطف الثمار ، هذه الأمور التي مهّدت في ، لابل دفعه في اختراع الأداة وتطويرها ، وهي – هذه البيئات – التي تدين لها البشرية لكونها الأساس التي انطلقت منها كلّ الخبرات البشرية ، والتي ساهمت في تحويل الصرخات والحركات إلى مقاطع صوتية ذي مدلوليةٍ اكتسبت مع الأيام معناها ، ولتتراكم تلك الأصوات والمرادفات وتتصقّل بالترافق مع تغييراتٍ أخذت تنمو داخل المجموعات البشرية من جهةٍ وآلية التدرّج مما يمكن تسميته بالواعية في طموح ذلك الإنسان لتسخير البيئة بحيواتها ودخول – العقل البشري – مرحلة التفعيل.
إذن ، هي اللغة التي أصبحت وسيلة الارتكاز الرئيسية ، لا بل الأساس في نقل الموروث المكتسب ، وتداول المعلومات ، هذه الظاهرة التي تأسّست بالارتكاز على عملٍ مستدام وطويل في مأسسة ما اتُّفِق على تسميته اصطلاحاً بالذاكرة الجمعية والتي ضاقت بها الطاقة البشرية مع الأيام، فكانت من الحوافز الهامة في سعيه ليؤسّس أبجديته الأولى نقشاً برسومٍ أو إشاراتٍ ساهمت ، لابل ، أوجدت الأساس للذاكرة البشرية موضعياً في بيئاتها الجغرافية المتنوعة ، هذه البيئات التي فرضت أنماطها بطرائق معيشتها ووسائل إنتاجها وتوفيرها لسبل البقاء ، وهنا ، يتوجّب علينا توضيح معادلة هامة ، تمثّلت في الخوف المستمرّ من كلّ شيء ، مما دفعتها – البشرية – لابتداع وسائلها المعرفية كآليةٍ لاستمرار تلك المبتكرات البدئية وتطويرها لاحقاً ، ومن هنا سيلاحظ المتتبّع لتطور المجتمع الإنساني بأنّ قانون التطور والارتقاء البشري – في بعضٍ من مفرداته – يلامس جوهر الارتقاء في بنية الوعي البشري، وبالتالي متحولات أنماطه ، من مرحلة التواكل إلى الإنتاج ، ومعها الوسيلة التعبيرية الناطقة ، التي أفردت أيضاً أساليبها في المحاكاة والسرد الذي توزّع بين الروايات الشفهية والقصص التي أضحت في سياقاتها التاريخية من أهم وسائل تراكم الخبرات ، وأيضاً تناقل الأحداث والاخبار المتوائمة أصلاً مع وجهة نظر وقناعة الجهة الناقلة ، وما الملاحم الكبرى وقصص الآلهة وآليات التجلّي المتدرّج من جهةٍ وظاهرة التطويب المقدّس ، ومن جديد في تحولاتها مع ظهور أية طفرةٍ ، والصراع كبداهة الذي ينمو على قاعدة وحدة وصراع متدرّجة بداهةً إلى أن يتمكّن الجديد فيسعى وبكلّ قوةٍ إلى إلغاء الآخر ، هكذا ملاحم وقصص بسيَرها ، لاتزال الذاكرة الجمعية للبشرية حبلى بها ، حيث تنوّعت سبل الحفاظ عليها في إطار ما صنِّف معرفياً وتمّ التوافق على تسميته بالتناقل الشفاهي للبشرية ، والتي أوجدت بالضرورة سبلاً لاستمرارية تدفقها وألقها ، وخلقت حساً تاريخياً متنوعاً ( .. مثل القصص وأعمال البطولة والأبطال ودخل عنصر الفن والخيال والأسطورة وهكذا نشأ التاريخ الشفهي وفن القصة … ) وإلى هذا النمط ( .. يعود الفضل في الحفاظ على معظم الملاحم والقصص المشهورة التي تتالت عبر التاريخ .. ) وهي تتدرّج في هيبتها وقداستها ، لابل وتنكشف وتنزاح عنها صفاتها الخارقة عبر التاريخ ، فتتلى أو تُقرأ كسيرة شخوصٍ كما الإلياذة والأوديسة في الحضارة اليونانية وملحمة جلجامش ومن قبلها اينانا ودوموزي ، ومعها سيرة عشتار / ستير المتتالية في الجذر الثقافي الكُردي الذي لايزال يعتبر أرضاً خصبة وحبلى في نمط الثقافة الشفاهية والمتداولة – إلى الآن – بطاقةٍ رمزية مكثّفة أشبه ما تكون – باللوغاريتما – ولكنها المنكشفة بوضوحٍ عن مكامنها الميثولوجية ومناحات الطبيعة والبناء الطقسي الأساس لبيئتها ونمطية إنتاجها على قاعدة التضاد أي الحياة والموت وأسرارها التي غادر جلجامش يبحث عنها …
…
# – ماركوس توليوس سيسرو (باللاتينية: Marcus Tullius Cicero) – شيشرون Cicero -، الكاتب الروماني وخطيب روما المميّز، ولد سنة 106 ق.م، صاحب إنتاج ضخم يعتبر نموذجاً مرجعياً للتعبير اللاتيني الكلاسيكي
يتبع
منشور في جريدة يكيتي – العدد284