المثقفون الكوردستانيون مدعوون إلى مزيدٍ من العناء
جان كورد
2015-05-25
بالتأكيد يعلم المثقفون والمناضلون الكورد وغير الكورد جيداً أن شرخاً كبيراً قد حدث في منطقة الشرق الأوسط، منذ انهيار النظام العالمي الثنائي القطب وبانتهاء الحرب الباردة، وهذا الشرخ الحادث بين القوى المؤمنة بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان وبين القوى والأنظمة السائدة المعادية لهذه القيم الإنسانية، قد تعمّق بقيام نظام الملالي في إيران على أساسٍ طائفي وقمعي لا مثيل له، بعد تصفيته سياسياً أو حياتياً، مختلف القوى المناضلة في سبيل هذه القيم على أرض الواقع الإيراني، وبسبب امتلاكه أسباب القوة المالية والإعلامية والعسكرية والاقتصادية، التي أغرته بالمضي في سبيل نشر نسختها الطائفية الخاصة من الدين، بهدف “تصدير الثورة الخمينية” إلى عمق العالم العربي، وبالتالي محاولة السيطرة التامة على المساحة الجغرافية التي يعيش عليها شعبنا الكوردي في عدة بلدانٍ متجاورة، واستخدامها كعتبة للدخول إلى البيت العربي الواسع، دون أي اكتراث بمطالب ونداءات هذا الشعب الذي ساهم في الثورة على نظام الشاه وقدّم التضحيات الجسام من أجل إنجاحها.
لقد مارس ملالي إيران كل ما في حوزتهم من أساليب المكر والخداع، والإغراء والترهيب، لدكّ البيت الكوردي، ومنع القوى الوطنية والديموقراطية الكوردية، في شرق وجنوب كوردستان خاصةً من التلاقي والتعاون وتقوية الذات. بل ارتكب القتلة في طهران المجازر تلو المجاز ر بحق شعبنا الكوردي أثناء اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد إدارة نظام الملالي في كوردستان في ثمانينيات القرن الماضي، واغتال القادة الكورد، ولا يزال يعدم كل يوم شبابنا وسط صمت العالم الحر الديموقراطي الذي كانت مصالحه الاقتصادية في المنطقة أهم من حرية شعبنا وبقية الشعوب التي ترزح تحت حكم الملالي في إيران كالبلوج والعرب والتركمان (ألاذريين)، مثلما يعاني أحرار الفرس أيضاً من ربقة إجرام الملالي منذ أن سيطر الخمينيون على مقاليد الحكم في عام 1980م.
تمكّن الملالي من أن يبنوا لهم قوةً إقليمية جبارة وبدأوا يمارسون التدخل في شؤون كل بلدان المنطقة ويتبعون أساليب ماكرة منها “التقية” مع المكونات القومية والدينية المختلفة في كلٍ من أفغانستان وأذربيجان وتركيا وبعض الدول العربية، وفي مقدمتها سوريا ولينان وفلسطين، بل تمكّنوا من دق الأسافين فيما بين دول العالم، شرقاً وغرباً، من دون التخلّي عن هدفهم الكبير، ألا وهو أن تصبح إيران “دولة نووية” تفرض شروط تعاملها السياسي والاقتصادي على ما حولها وتحقق “تصدير الثورة الخمينية” في البلدان المسلمة المجاورة.
مع تفتّح براعم “الربيع العربي” في دول شمال أفريقيا أولاً، شعر نظام الأسد بالأرض من تحت قدميه يتحوّل إلى جمراتٍ من النار، فكان أوّل ما قام به هو الاستعانة بملالي إيران وطلب مساعدتهم الفورية من مختلف الوجوه، المالية والإعلامية والعسكرية والأمنية، وهؤلاء وجدوا في ضعف الأسد ضالتهم، حيث كان هدفهم الوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط بشتى الوسائل، وكانت العلاقة بين دمشق وطهران متطوّرة وقوية، إلاً أنها لم تصل إلى درجة أن يستولي قادتهم الأمنيون على مفاصل الدولة السورية وتحريكها كأطراف روبوتات كما يشاؤون، وهذا ما تحقق لهم فعلاً، في حين أن المجتمع الدولي لم يهتم بالنتائج السلبية لذلك التحرّك الإيراني على الأمن والسلام في المنطقة، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تحريك كلٍ من تركيا وبعض الدول العربية الصديقة والمتحالفة معها للحفاظ على التوازن الأمني والعسكري في المنطقة، إلاّ أن تركيا في عهدة حزب السيد أردوغان كانت منشغلة بأمورٍ وجدتها حكومة أنقرة أهم من كل شيء:
-المضي قدما في سياستها الكوردية لتجريد قوات (الكريلا) التابعة لحزب السيد أوجلان من السلاح، دون منح الكورد حق إدارة أنفسهم بأنفسهم.
-تحقيق الرفاه الاقتصادي من خلال التوغل جنوباً عبر كلٍ من سوريا والعراق.
-التحرّك السياسي والدبلوماسي الواسع لإقناع الأوروبيين بأن تركيا مؤهلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
-محاولة التصدي لأي قرار أوروبي أو دولي بصدد تعويض الأرمن عما لحق بهم من أضرار مادية بسبب المذابح التي ارتكبها العثمانيون بحق الشعب الأرمني، لأن ذلك سيقوّض الميزانية التركية تقويضاً شديداً.
-السعي لمنع عودة العسكر إلى ممارسة دورهم السابق في السياسة التركية.
وعليه، فإن تركيا كانت بحاجة للظهور أمام العالم العربي كصديق، وهي عضو في حلف الناتو وكانت لها علاقات متينة مع إسرائيل، وبالتالي كسب العرب ليكونوا حلفاء لها في مواجهة أعدائها في العالم الغربي، ولذا لم يكن مفيداً لها الدخول في صراع مع إيران المنافسة لها في المنطقة، وبخاصة فإن أي صراع بين الدولتين يخدم تنامي قوى الشعب الكوردي الطامح لنيل حقوقه، وهذا ما لا تريده الدولتان باستمرار.
إن الظروف المحيطة بالشعب الكوردي نتيجة تقسيم وطنه كوردستان، قد أرغمت قوى التحرر الوطني له أن تستعين بعدوٍ محتلٍ لجزءٍ من أرضه ضد عدوٍ آخر محتلٍ لجزءٍ آخر من وطنه، بينهما خلافات وصراعات، وخير مثالٍ على ذلك استعانة كورد العراق بإيران في حين استعان كورد إيران بنظام صدام حسين، وكلا النظامين في العراق وإيران كانا عدو ين لدودين للشعب الكوردي، في حين استعان الحزب العمالي الذي يرأسه السيد أوجلان بالنظام السوري ضد تركيا، أما الكورد السوريون ففضلوا الاستعانة بإخوتهم في جنوب كوردستان على الغالب، ولم يحاولوا الاستفادة من تناقضات نظام الأسد والحكومات التركية المتعاقبة، ولكن ما كان يقدمه أعداء الكورد لأحزاب الكورد كان من باب التاكتيك والضرورة الطارئة، والهدف الآخر كان تدجين الحركة الكوردية ومنعها من الاتحاد الحقيقي الذي سيضر بالدولة الداعمة مثلما يضر بالدولة الأخرى. وكانت هذه التقاربات والتنافرات تنتهي بمآسي حقيقية لشعبنا، مثلما حدث في عام 1975 حين اتفق العدوان صدام حسين والشاه الإيراني في الجوائر، ومثلما هدد السيد يولند أجاويد رئيس وزراء تركيا نظام حافظ الأسد بالغزو والحرب إن استمر في دعم السيد أوجلان وحزبه، وكانت النتيجة ما نعلمه جميعاً…
هذه الظروف والتناقضات خلقت وضعاً سيئاً في كوردستان، حيث يتواجد محوران أو قطبان (تركي وإيراني) مؤثران بعمق في الحياة السياسية لشعبنا، وذلك بعد أن تم القضاء على المحور البعثي العراقي وابعاده عن الحكم ولم يعد قادراً على التأثير في سياسات الحركة الكوردية، وبعد أن أصبح نظام الأسد جزءاً من المحور الإيراني، أي من دون كاريزما خاصة به. وهذا يذكّرنا بالمعسكرين العالميين: الناتو ووارسو.
ومن المؤسف أن بعض الأحزاب الكوردية منغمسة في وحل هذه المحاور، بحيث باتت سياساتها جزءاً لا يتجزأ من سياسة هذا المحور أو ذاك، على الرغم من أن مجمل الإطار الظرفي للمنطقة قد تغيّر ولا يزال يتغيّر بسرعة، بحكم تداعيات انهيار المعسكر الاشتراكي وقيام الاتحاد الأوروبي وتحولّ الاقتصاديات الوطنية إلى اقتصاد عالمي تابع لنظام عالمي جديد، وعلى الرغم من التحوّل الكبير لنظم المعلوماتية التي أعطت عالمنا وجهاً جديداً في شتى المجالات، بحيث صارت الحدود غير قادرة على وقف الحراك الإنساني الكبير في شتى أنحاء العالم، حتى إن أعتى الدكتاتوريات ومنها دكتاتورية كلٍ من شمال كوريا وسوريا لا تستطيعان سد كل الثقوب في جدران ممنوعاتها.
لا نستطيع نكران أن بعض أحزابنا الكوردية لم تعد سوى لعبة في أيادي المحورين الإقليميين، وفي هذه الظروف التاريخية، حيث الإرهابيون يحاولون بشتى السبل الاستمرار في عدوانهم على شعبنا، سواءً في جنوب كوردستان أو غربها، نجد أن بعض أحزابنا لا تزال مهتمة بتوسيع نطاق نفوذها الحزبي على الساحة الوطنية والقومية، وهذا السلوك يستدعي فضح هذه القيادات والزعامات، أياً كانت، في الوقت الذي بدأ العالم الحر الديموقراطي يبدي اهتماماً جاداً بقضية شعبنا ويستقبل رئيس إقليم جنوب كوردستان الأخ مسعود البارزاني كممثل للشعب الكوردي بأكمله، ويفتح النقاش معه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من ساعة في @”جلسة عمل” تجاوزت البروتوكولات الرسمية حول “استقلال كوردستان” و حول “العراق والإرهاب” ويوعده ببذل المساعدات العسكرية المباشرة لبيشمركة كوردستان، ويؤكّد على أن الشعب الكوردي قد اتخذ موقعه في الخندق الأوّل ضد الإرهاب والتطرّف، وعليه فإن المجتمع الدولي لن يتخلى بعد اليوم عن الكورد، إلاّ في حالة واحدة، ألا وهي التمزّق ضمن إطار التبعية الإقليمية والتحارب السياسي والاقتصادي بين إيران وتركيا.
ولذا، فإن مهمة المثقفين والمناضلين الكوردستانيين الأحرار تكمن أولاً وأخيراً في:
– دعم الإنجازات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والعسكرية لإقليم جنوب كوردستان في ظل قيادة الإقليم المشتركة بين قواه المختلفة، لأن الإقليم هو رأس الحربة الكوردستانية حالياً وبداية التحرير الفعلي وما حققه عملياً على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي هي الخطوة الأولى صوب الوحدة القومية وبناء الدولة الكوردية المستقلة على تراب الوطن الكوردستاني.
– السعي لتخفيف التوتر بين القوى الكوردية التي تواجه بعضها بعضاً بسبب الولاءات الإقليمية وتذكيرها بالكوارث القومية نتيجة الاستمرار في التحرّك ضمن الإطارات المحددة من المحاور الإقليمية التي تحارب ضمناً فيما بينها كل خطوةٍ لشعبنا صوب نيل حقوقه العادلة، وإقناع هذه القوى عن طريق التواصل بأن مصلحتها في الانسجام والتضامن القومي وليس في تنفيذ أوامر تلك المحاور.
– بناء جبهة عريضة حرّة من المثقفين والمناضلين، حزبيين كانوا أم مستقلين، تحمل على عاتقها مهمة توعية الشباب في مجال التعريف بالأهداف القريبة والبعيدة للقوى الإقليمية والدولية التي ترتبط بها بعض الأحزاب الكوردية وتدين لها بالولاء، وإيضاح الطريق الصحيح للخروج من دوامة الصراعات الداخلية الجانبية، ورفض استخدام السلاح وإظهار القوّة في النزاعات الداخلية.