في المكاشفة والاعتذار ودورهما في تجاوز آثار النزاعات الداخلية
شاهين أحمد
مامدى أهمية المكاشفة ، والاعتراف ، ومن ثم الاعتذار الواضح والصريح في قطع الطريق على مثيري الكراهية ، وتجاوز آثار النزاعات الداخلية ، والتأسيس لقواعد السلم الأهلي ، والعيش المشترك ؟.
المكاشفة هنا تعني الكشف عن الحقائق المتعلقة بالإنتهاكات ، ورفع الغطاء عنها ، وبالتالي الإطلاع عليها ومعاينتها ، ومجاهرة مَن تسبّب أو ارتكب خطأً أو اقترف جرماً ، أو انتهك حرمةً ، … إلخ بها . وعلى المتسبّب أن يتقبّلها ، ويقرّ بإرتكابه لها ، ومن ثم الاعتذار للضحايا أو ذويهم ، واستعداده لتعويض هؤلاء الضحايا أو ذويهم ، والتأكيد على عدم العودة إليها مرةً أخرى . وبدون أدنى شك أن المكاشفة هي الخطوة الأولى التي تمهّد للاعتراف بالأخطاء ، وبالتالي الاعتذار والتأسيس لثقافة الصدق والتسامح والشراكة والبناء ، وتعتبر خطوة شجاعة . وشعوب منطقتنا بشكلٍ عام ، ونحن كسوريين بصورةٍ خاصة.
وبعد أكثر من ستة عقودٍ من الحكم الشمولي لحزب البعث العربي الإشتراكي ، وعقدٍ كامل من الأزمة السورية ، ومئات آلاف الشهداء والمفقودين، وملايين المهجّرين – نازحين ولاجئين – قسراً داخلياً وخارجياً ، وتدمير البنية التحتية لأكثر من نصف الحواضر السورية ، ووجود جيوش عدة دول ، وكذلك عشرات الميليشيات الطائفية المتطرفة الحاملة للمشاريع العابرة للحدود والموجودة على الأرض السورية . وسوريا فعلياً مقسّمة لثلاث مناطق نفوذ رئيسية ، لكلّ منطقة من المناطق المذكورة حكوماتها وإداراتها وعلاقاتها السياسية والتجارية ومنظوماتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية المستقلة تماماً . ولايمكن الحديث عن سوريا موحّدة ومستقرة إلا من خلال مشروع وطني سوري تغييري شامل يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية ، مشروع هادف لإعادة إنتاج جمهورية سورية إتحادية بنظام ديمقراطي مدني على مسافة واحدة من كلّ تلك المكونات.
وهنا لابدّ من العمل من خلال ثلاث مفردات متلازمة ومتكاملة هي : التصارح ، التسامح ، التصالح ، لتهيئة المناخات اللازمة لتطبيق أي مشروع وطني واقعي وعملي . وبدون أدنى شك أنّ المكاشفة تكون ضرورية لطيّ مرحلة العنف ، وقطع الطريق على حوامل الانتقامات ، وتعني أنّ هناك قضية أو قضايا تمّ فيها خرق مبادئ حقوق الإنسان ، قد تكون القضية المطلوب المكاشفة فيها مرتبطة بالموقف من المكونات وجوداً وحقوقاً ، أو بجرائم القتل والخطف والتعذيب، أو بالجرائم المخلّة بالواجبات الوظيفية العامة ، أو بخرق القوانين المعمول بها ، أو بجرائم العنف ضد المرأة ، أو تجنيد القصر ،أو جرائم التمييز العنصري ، أو جرائم نشر الكراهية والمخدرات ، أو سرقة الأموال الخاصة والعامة ، أو الكسب غير المشروع مثلما نراه في ظاهرة ظهور طبقة مافيات وتجار الحروب …إلخ .
وكي تكون المكاشفة عملية ومنتجة لا بدّ من الاتفاق على الجوانب التي ستشملها المكاشفة ، ومن ثم البدء بعملية المكاشفة لإلقاء الضوء على الجرائم والتجاوزات والانتهاكات والمظالم التي حصلت في المجالات المتفق عليها والمذكورة سابقاً ، ومن ثم تحديد المسؤولية بكلّ جرأةٍ عن تلك التجاوزات او الجرائم ، وتقسيمها حسب الحجم والأضرار ، لأنه هناك تجاوزات ربما بكفي الاعتذار عنها كي تُطوى صفحاتها ، ولكن هناك جرائم لايمكن أن يكفي الاعتذار بنسيانها بل يتطلّب الأمر هنا تحويلها لضوابط وإجراءات العدالة الانتقالية لإنصاف الضحايا . إذاً من الأهمية بمكانٍ هنا الاتفاق على المساحات أو العناصر المحددة التي سيتمّ العمل من خلالها ، وستشملها المكاشفة ومن ثم الاعتراف والاعتذار وطيّ تلك الصفحات ، وفتح صفحات جديدة تتناسب مع إرادة التوافق والعيش المشترك . وهناك نقطة هامة في هذا الموضوع تتجسد في الأطراف التي ستشارك في المكاشفة من خلال الإجابة على السؤال : مَن هي الأطراف التي يجب أن تشارك وتقوم بالمكاشفة والاعتراف والاعتذار والقبول ؟.
بدون أدنى شك أنّ الجهة المعتدية ، والجهة المعتدى عليها ، وكذلك المنظمات المعنية بحقوق الانسان ، و وسائل الإعلام يجب أن تكون موجودة . والمكاشفة يجب أن تشمل أيضاً تعريف المنطقة التي ستشملها العملية ، وتحديد وتسمية شعوبها ، وضرورة تصويب وتصحيح المراجع التاريخية التي أدّى تدريسها إلى نشوء أجيال مشوهة ، وتحديد مسؤولية الجهات التي قامت بعملية التزوير ، والمساهمين في نشر وتسويق تلك المراجع المزورة .
وهنا من الأهمية التأكيد بأنّ هناك فرق كبير بين الأسف والاعتذار، لأنّ الأسف هو إبداء الندم على الفعل أو الانتهاك الذي إقترفه الشخص المعتدي ، ومحاولة جادة منه – من الظالم – لتصحيح الخطأ الذي إرتكبه بحق الضحية ، وبالضرورة عليه أن يعرب عن استعداده التام لتعويض المظلوم عن مالحق به من أضرار سواءً أكانت مادية أو معنوية . أما الاعتذار فهو إجراء لإنهاء الموقف ليس أكثر ، لذلك لابدّ أن يترافق الاعتراف مع المكاشفة ويتبعهما الأسف . ومن فوائد ذلك تخفيف حدة الصراعات ، والتأسيس لعلاقةٍ جديدة بين المختلفين ، ويكون ذلك من خلال العمل بقواعد الندم على الفعل الخاطئ . وهنا الأسف والاعتذار ليس فقط لهما دور في معالجة الجروح النفسية فحسب ، بل يتحولان إلى رادع حقيقي لسلوك الظالم لمنع تكرار هكذا جرائم مستقبلاً .
ومن الأهمية بمكان أيضاً الإشارة هنا إلى أنّ الشخص الذي سيتقبل بالمكاشفة الفعلية الصادقة ومن ثم الاعتراف والاعتذار والأسف لابدّ أن يتحلّى بالشجاعة الكافية للتخلص والتنازل عن الغرور والكبرياء ، وكذلك عليه أن لايعتبر أنّ الاعتذار للضحية هو هدر لكرامته ، لأنّ الاعتذار هو بداية السير في الطريق الصحيح، وعلى المرتكب لجرم أو انتهاك أن يتحلّى بالشجاعة الكافية لتحمل النتائج مهما كانت ، لأنّ الخطأ الذي يتمّ المكاشفة عنه ، وإظهار الأسف والاعتذار عنه ، يعني معالجته والتخلص من عواقبه وتبعاته ، وأنّ الخطأ الوحيد الذي سيؤرّق كاهل المعتدي هو الذي لا يمتلك الجرأة الكافية للاعتراف به والاعتذار عنه. ومن التحديات البارزة أمام انتشار ثقافة الاعتذار اعتقاد البعض بأنّ الاعتذار سمة من سمات الضعفاء لا يجب إظهارها ، وبأنّ الأسف والاعتذارهو دليل ضعف وهزيمة لا تليق بهم ، وهناك مَن يعتبر نفسه فوق الأخطاء ، وبأنهم لن يتنازلوا ولن يعتذروا لمن هم أقل شأناً أو منزلة منهم . ومن المفيد الإقرار هنا بأنّ المجتمعات الغربية التي تحكمها قواعد ديمقراطية ، وصناديق الانتخاب هي الآلية التي تفرز الحاكم ، والدساتير والقوانين هي التي تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وأنّ السلطة تتداول سلمياً من خلال تلك الصناديق ، هي المجتمعات التي تعتبر الاعتذار جزءاً من ركائزها وثقافتها الفكرية ، ويزرعون بذور تلك الثقافة في أطفالهم منذ الصغر من خلال مناهج تربوية وتعليمية موجّهة ومدروسة ، بخلاف مجتمعاتنا التي تحكمها الدكتاتوريات الشمولية والجنرالات .
وهنا علينا أن ندرك بأنّ المكاشفة والاعتراف بالخطأ ، والاعتذار والأسف عنه ، ليست مجرد كلمات تقال في زحمة الخطابات الشعبوية لتبرير الأخطاء أوالالتفاف على النتائج المترتبة ، أو البحث عن مخارج من الورطات التي سبّبتها سلوكيات خاطئة . لأنّ الاعتذار يعني بأنّ الفاعل قد وصل إلى قناعة تامة بأنه إرتكب جرماً أو انتهاكاً أو خطأً ينبغي تصحيحه ، وتطلّب ذلك المكاشفة عنه ، وتوجب الاعتذار ، وبالتالي فإن شكل الاعتذار لابد أن يتناسب وحجم الخطأ . والظالم أو المخطئ الذي يصل إلى مرحلةٍ يكون فيها على استعداد كامل للمكاشفة والإعتذار لابدّ ان يتحلّى بسرعة المبادرة لتقبل المكاشفة ، وإظهار الأسف والندم ، وتقديم الاعتذار ، وتجنب تبرير الخطأ ، وإشعار الضحية بأنه صادق في مبادرته ومكاشفته وندمه ، وأن يطلب من الضحية أن تسامحه ، لأنّ التلاعب بالكلمات ، واختيار التوقيت غير المناسب ، والتكبر في الحديث قد يؤدّي إلى تفاقم المشاكل وليس حلها . وللاعتذار أنواع ، قد يكون شكلياً ، أو مجاملة عابرة ، أو قد يلجأ الظالم إلى مجادلة الضحية أملاً في الالتفاف على الخطأ ، أو مكرهاً نتيجة ضغوطات مختلفة . أما الاعتذار عندما يكون صريحاً وواضحاً فإنه يفي بالغرض ، ويحقق النجاح ، ويفتح الآفاق ، ويؤسس لمرحلةٍ جديدة . وقد يكون الاعتذار عاماً بمعنى أنّ الدوافع والغايات من وراء فعل الاعتذار مختلفة ، وربما تأتي في حقول الشعبوية والنفاق ، وخاصةً أثناء حملات الدعاية الانتخابية في الكثير من الدول.
وهنا من الأهمية التأكيد بأنّ الأمر يعني الطرفين الظالم والمظلوم ، طالما أنّ الظالم قد قبل المكاشفة ، وأبدى استعداده وأسفه ، وأظهر ندمه واعتذاره ، فإنّ المظلوم عليه أن يتحلّى أيضاً بالشجاعة الكافية لقبول الاعتذار ، وقبول الاعتذار من جانب الضحية يجب أن لايفسّر ضعفاً أو ابتلاعاً للإهانة ، أو تنازلاً عن حق ، وإنما تسامحاً وتصالحاً وتأسيساً لعلاقة ومرحلة جديدة . وهذه العملية ليست من السهولة كما يتوقّعها البعض ، وإنما هي عملية مركّبة ومعقّدة تتطلّب الكثير من الجهد والدراسة للإحاطة بجوانب المشاكل والانتهاكات للمواضيع التي ستشملها المكاشفة والاعتراف والأسف والاعتذار ، وبالتالي يجب أن يتمّ العمل عليها من خلال رؤية واضحة علمية وواقعية واستراتيجية . وكي تحقّق هذه العملية النبيلة أهدافها ، وتدرك مقاصدها يجب أن لا تتوقّف عند القضايا الاجتماعية الفردية فقط ، بل عليها أن تشمل مختلف المجالات السياسية والاقتصاديه والثقافية والاجتماعية ….إلخ ، المتعلّقة بمستقبل البلد والشعب، ومن الضرورة بمكان طمأنة الطرفين ، الظالم والمظلوم ، بأنّ الظالم لن يكرّر فعلته ، وأنّ المظلوم لن يلجأ إلى الانتقام .
خلاصة الحديث، ما ذكرناه من كلمات في هذه العجالة لموضوعٍ هام ومتشابك ومعقد في عناصره ، عبارة عن محاولة لإثارة موضوع في غاية الأهمية ، كوننا من بلدٍ تأكله النيران من كلّ الاتجاهات ، والأحقاد مازالت تزرع في حقوله من قبل غالبية الجهات ، في بلدنا سوريا التي باتت مكباً للنفايات البشرية التي أرسلتها دول العالم عبر فلترة مجتمعاتها ، في بلدٍ لم يعد يطيق الطيبين والخيرين والأحرار ، في بلدٍ تحوّل إلى بيئةٍ طاردة لأبنائه ، وتحوّل إلى ساحة تصفية حسابات المتورطين الكبار فيه ، في دولة أصبح فيها التوافق ممنوعاً ، والشراكة كفراً ، والفدرالية تقسيماً ، والمرتزق المجرم ثائراً ، والمحتل مخلصاً ، في دولة لا تطيق الأكاديمي والعالم والمفكر ، ولاتحترم التنوع المكوناتي الجميل ، في بلد يجرّد كلّ لحظة من خصلةٍ من خصاله الأصيلة ، في بلد أصبح الموت جزءاً من حياته اليومية ، ومرتعاً للمافيات والعصابات وتجار الحروب . ومع كلّ ذلك على النخب السورية كافة ومن مختلف الانتماءات والمكونات تقع مسؤولية البحث عن المشتركات ، وسبل تجاوز الأزمة ، والتأسيس لأرضية مشروع وطني سوري تغييري جامع لإعادة إنتاج سوريا جديدة ومختلفة عن سوريا البعث ، لكلّ السوريين وبكلّ السوريين .