الكُرد في سوريا قضية واحدة وخيارات متعددة
د. عبدالوهاب احمد
تعرّضت سوريا بعد انطلاقة ثورتها الشعبية عام 2011 إلى تدخلات خارجية كبيرة ، و متغيرات داخلية معقدة ، كانت لها الوقع في تغيير مسار حل معظم القضايا الوطنية العالقة في البلاد منذ مايقارب النصف قرن، ودفعت بمعظم الأحزاب والجهات السياسية المعارضة إلى التحرر من قيودها ، وشجّعتها لإعادة النظر في خطابها وخياراتها السياسية، و بطبيعة الحال، الكُرد ليسوا مستنثين من هذه الحالة ، وبحجم هذه التبادلات ، اختلف الكُرد على تحديد خياراتهم السياسية، وتوزّعوا في أطر وأحلاف ومواقع متباينة، على الرغم من تمثيلهم المفترض لشعبٍ واحد وقضيةٍ واحدة.
شهدت الساحة السياسية الكُردية تباينات في المواقف السياسية بين أطرافه ، أفرزت معها اصطفافات و خيارات عدة في منهجية التفاعل السياسي مع الحدث السوري الطارىء ، يمكن ايجازها في ثلاث توجهات أو خيارات : الأول، ” الخيار الوطني ” أو الحل السوري – السوري : وجد بعض الكُرد في هذا الخيار، بعد زيادة التدخلات الخارجية في الوضع السوري، وتحريف الثورة عن مسارها الطبيعي ؛ المخرج الوحيد والأنسب لوقف النزيف والمأساة السورية ، وأخذوا يراهنون على ضعف بشار الأسد ونظامه في ظلّ انحسار سيطرته على كامل الجغرافيا السورية . حيث أصبح التعويل على “حاجة الأسد ونظامه لكسب الأقليات إلى جانبه” في حربه المعلنة؛ الدافع والمبرّر الذي يستوجب الإسراع من أجله في حشد الرأي العام الكُردي حوله ، وانتزاع ما يمكن انتزاعه من حقوقٍ كُردية من ” نظام متهالك ” يستجدي دعم الأقليات عبر تقديم تنازلات كبيرة لإنقاذ نفسه من السقوط أولاً، ولتجريد الثورة والمعارضة من تنوعها السياسي والعرقي ثانياً . ولكن اثبت بشار الأسد ونظامه مرةً أخرىً، أنّ مفهوم الحل الوطني في قاموسه لا يتعدّى كونه حلول أمنية مشروطة استعلائية ، ومسألة الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية والاعتراف بهوية الشعوب الأخرى غير العربية في سوريا ليست إلا مفاهيم ومطالب ” لابتزاز إحدى دول محور المقاومة ” في وجه إسرائيل وامريكا ! . وليس صحيحاً ، أنّ الكُرد ينبذون الحل الوطني، أو يتهرّبون منه ، لا بل لأنهم عجزوا عن فتح أيّ ثغرةٍ في تلك العقلية الشوفينية – الأمنية التي دفعت بجميع القضايا السورية إلى خارج أسوار الوطن ،وليست القضية الكُردية وحدها، ولا نجافي الحقيقة إن قلنا : إنّ المعوّلين على هذا الخيار أصبحوا خارج الحسابات والمشهد السياسي السوري، إن لم يراجعوا حساباتهم.
الثاني، خيار فرض الأمر الواقع أو العسكرة : مثلهم كالعديد من الأطراف السورية الذين رأوا في عسكرة الثورة فرصة لإثبات وجودهم وتنفيذ أجنداتهم الخاصة من خلال فرض واقع اداري – عسكري معين بقوة السلاح ، وبسبب تحول سوريا إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين الأطراف الإقليمية والدولية؛ توهّم أصحاب هذا الخيار أنه بالإمكان حجز مقعد لهم في حلبة الصراع الإقليمي – الدولي على سوريا ، وازدادوا يقيناً عندما أسند لهم الدور الوظيفي لمحاربة تنظيم داعش من قبل دول التحالف الدولي، وعلى قاعدة ” الاستغلال في الاأزمات قبل انتهائها مكسب ” ، سارعت هذه الجهة للإعلان عن نفسها ضمن مشروع مرتكزه أيديولوجي دون الأخذ بأيّ إعتباراتٍ وطنية أو إقليمية سوى تقديرها بأنّ حاجة الدول المتصارعة إلى دورها الوظيفي ستخوّلها لفرض ما تريد سواءّ ضمن السياق الوطني أم عبر تفاهمات وتوافقات إقليمية – دولية.
الثالث :خيار التمسك بثوابت الثورة السورية والحفاظ على الخصوصية الكُردية.عندما اختار الكُرد العمل ضمن صفوف المعارضة، واصطفّوا مع ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد ، فهم مارسوا قناعاتهم الوطنية أولاً، وأكّدوا على رفضهم للدكتاتورية والاستبداد ثانياً، سواءّ كانت في درعا أم قامشلو، ووجدوا في هذا الانحياز ضرورة واقعية تخدم قضيتهم، وتدعم تطلعاتهم في سوريا المستقبلية. وعندما تحوّلت الثورة السورية إلى أزمة داخلية، وقضية إقليمية- دولية بعد مرور عقدٍ من انطلاقتها ؛ اجتازت معها القضية الكُردية حدودها الوطنية لتغدو قضيةً إقليمية- دولية أيضاً،ً وبات حلها بحاجة ماسة إلى توافق وطني – إقليمي- دولي ضمن سياق العملية السياسية التي أقرّت في مؤتمر جنيف وفق القرار ٢٢٥٤.
بغضّ النظر عن المحاولات التي استهدفت العملية السياسية الخاصة بحلّ الأزمة السورية وإفراغها من محتواها عبر عقد العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية ، والتفاهمات المحلية العسكرية ، إلا أنها بقيت المرجعية الوحيدة للحلّ السياسي في سوريا . وفهماً لطبيعة الصراع وتوازناته السياسية في المنطقة ، كان خيار التمسك بالعمل ضمن صفوف المعارضة الوطنية من قبل الكُرد ، خياراً استراتيجياً صائباً ، وبغضّ النظر عن تمثيله ومدى تأثيره في الهيئات المنبثقة عن العملية السياسية ، يبقى الإنجاز الذي حقّقه المجلس الوطني الكُردي الذي يمثّل هذا الخيار ، هو النجاح السياسي الوحيد الذي حقّقه الكُرد طيلة السنوات الماضية، وهو الخيار المستمر في الانتعاش يوماً بعد آخر لتقاطعه مع خلاصة الرؤيةالدولية لحلّ الأزمة السورية، وهو الذي يجب أن يُدعم بكلّ السبل السياسية والدبلوماسية الممكنة، ليس فقط عبر ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية الذي بات بحاجةٍ إلى الكثير من المراجعات في سياساته الوطنية ، خاصةً بعد انحيازه إلى جانب أجندات دول إقليمية أثبتت الأيام زيف ادّعائها بالوقوف مع ثورة الشعب السوري وخيارات مكوناته، ولم يعد كافياً التعويل فقط على موقع أو الاصطفاف مع جهة معارضة واحدة ،بعد أن تعدّدت المعارضات وخياراتهم ، حيث أصبح البحث عن ائتلافات سياسية أخرى ، أو حتى مسارات رديفة، تدعمها دول مؤثّرة في إدارة الأزمة السورية ، و تنسجم مع رؤية المجلس وتدعم موقعه السياسي ؛ من الأولويات التي يستوجب الوقوف عليها ودراستها . وبدون أدنى شك ، أصبح المجلس الوطني الكُردي هو الآخر بحاجةٍ إلى إعادة النظر في بعض سياساته وهيكلياته التنفيذية، واعتماد آليات جديدة في اتخاذ القرارات المصيرية التي لابدّ أن تكون بعيدة عن الأنانية وسياسة ردود الأفعال والمزاجية.
المقالة تم نشرها في جريدة يكيتي عدد 291